التدريب الميداني بين مطرقة البيروقراطية وسندان الجودة

 

في خضم العمل مع متطلبات الجودة وإعادة النظر في كثير من المراجعات لتجويد الخطة الدراسية في قسم الجغرافيا، ومع مراجعة التجارب في الجامعات العالمية في نفس التخصص، مع استحضار تجارب القسم في تنفيذ التدريب الميداني، وجدت نفسي مرغماً لإفادة من بيده القرار عن أهم معضلات تنفيذ التدريب الميداني، ولعل هذه المصاعب ليست مقتصرة على قسمنا، بل هي قضية عامة في جامعاتنا.

يمثل التدريب الميداني ركيزة أساسية في البرامج الدراسية خاصة في برنامج البكالوريوس، فهي بمثابة التأهيل العملي للخلفية النظرية، وهي لا تقل عن سنة الامتياز لطلبة الطب. نعم، نعم، نعم. والدليل على أهمية هذا الجانب، ما أكدته الجامعة وجهة الاعتماد الأكاديمي الوطني خلال العشر سنوات السابقة. فجهة الاعتماد استحدثت توصيفاً وأسمته: توصيف الخبرة الميدانية. فإذا كان هذا النموذج يرتبط أكثر بمقرر التدريب التعاوني، فماذا عن التدريب الميداني؟ صحيح أن مقرر التدريب الميداني يدخل ضمن الخبرة الميدانية، إلا أن التدريب التعاوني مرتبط بجهات عمل، أما مقرر الدراسات الميدانية (كما هو عندنا في القسم بنفس الاسم)، فيتطلب النزول إلى الميدان. لكن، بيروقراطية الموافقات والدعم قلما تأتي، وإذا أتت، فهي قليلة، وإذا أتى القليل فيجب مثلاً أن ترفق فواتير الركوب في تاكسي. وغيرها من الإشكالات. وبالمقابل، لننظر مثلاً في خطة التدريب الميداني في الجامعات التي اطلعت عليها في قسم الجغرافيا: لدى القسم أكثر من مستوى للتدريب الميداني، فقد يكون مستويين أو ثلاثة، فالمستوى الأول رحلة ميدانية إما خارج الدولة أو داخلها، ولكم أن تتخيلوا ماذا يتم في الميدان من رصد ونقاش ثم تحليل ثم كتابة تقارير وافية وفق جدول زمني وخطة متكاملة، ثم تخيلوا قيمة الخبرة التي اكتسبها الطلبة وتأثيرها طيلة حياتهم، ودور هذه الخبرة في تأصيل المعرفة النظرية وصقل مهارات الطالبة وقدراتهم المختلف، وصل الأمر في بعض الجامعات أن القسم لديهم مشروع تطبيقي يهتم بقضية جغرافية في مكان في العالم، ولم يدر في خلد تلك الجامعة التساؤل: لماذا تهتم يا قسم بالتنمية الريفية في الكنغو أو دراسة العصر الجليدي في النرويج، أو أحوال اللاجئين على حدود دول معينة؟! لماذا؟ لأن العلم علم، ونطاق العلم كل الأرض، والمزية والفضل لمن يسبق ويدرس قضايا تهم العالم.  ولهذا وجدنا أن الجديد الذي يهم العالم يأتي من هذه الجامعات التي رأت أن الكرة الأرضية كلها ميداناً للدراسة. ونحن نتحدث عن صعوبة رحلة للمزاحمية لمدة خمسة أيام أو عشرة أيام! وللذين يجادلون فيما تقدم، نؤكد أن الجغرافيا علم ميداني بالدرجة الأولى، وقضايا البيئة والمجتمع وتداخل عناصرهما معني بها علم الجغرافيا، وعليه فالأمر ليس مجرد علم للثقافة العامة، وبهذا أردت أن أنبه من لديه شكوك للإشارة إلى أهمية التثقيف بالعلوم ودورها في الواقع لخدمة المجتمع. لذا فالتدريب الميداني لطلبة أقسام الجغرافيا بمثابة –مرة أخرى- سنة الامتياز لطلبة الطب. وبسبب ضيق الأفق في فهم أهمية التدريب الميداني واستيعاب دور جامعاتنا في المشاركة الميدانية الدولية، ومن ثم العمل على تغيير الذهنية فكراً وقولاً وعملاً، انكفأت الأقسام على نفسها، وأصبحت فكرة أن يبحث طالب الدراسات العليا مثلاً في موضوع من موضوعات العلم في مكان خارج مدينته بمثابة النكتة السمجة. أعتقد أن إصلاح هذا الأمر يحتاج إلى وضع حلول، وإلا فيمكن أن نستمر في تسطير أجمل النصوص في نماذج الجودة، لكن تحقيق الجودة فعلياً وتوظيف طلبتنا ومنافستهم محلياً ودولياً سيظل يراوح مكانه مصحوباً بغصة مريرة متكررة كل فصل. هذا والله من وراء القصد.

أ.د. علي بن معاضه الغامدي

مقرر لجنة الخطط والبرامج الدراسة

قسم الجغرافيا

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA