الصيام.. «من منظور كيمياء الجسد»

 

يتزامن بداية شهر إبريل من هذا العام مع بداية شهر رمضان الفضيل والذي يعني الكثير لقرابة الملياري مسلمٍ حول العالم، ففي هذا الشهر يشعر المسلمون وكأنما سرعة خطى الزمان بدأت بالتأني، واستعادت نفوسهم بعضاً من الحلم والرحمة، وأصبحت أجواء عالمهم مشبعةً بالروحانية، فبالرغم من المشقة التي يمثلها الصيام للبعض منهم، إلا أن ذكرياتهم بهذا الشهر الفضيل يغلب عليها مشاعر البهجة، ولعل أن من أسباب هذه المشاعر الجميلة التي يُكِنها المسلمون لهذا الشهر هي طقوسه الدينية والتي تمنحهم الفرصة لإعادة استكشاف ذواتهم وموقعها من هذا العالم الصاخب، إضافةً للطقوس المجتمعية التي تصاحب هذا الشهر والتي تعزز كيان العائلة وتذكرهم بأهميتها، إلا أن العلم الحديث يعتقد أن للصيام شأناً كبيراً من مشاعر الانشراح هذه، بل أنه مسؤولٌ بشكل مباشر عن كثيرٍ منها، حيث يعمل الصيام على إحداث تغييرات كيميائية-حيوية كبيرة داخل كل خلية من خلايا الجسد تؤثر على صحته الذهنية والبدنية.

بينما، لا تزال الأبحاث الطبية عن التأثيرات الإيجابية للصيام على الجسم البشري في بدايتها، إلا أنها اكتسبت زخماً كبيراً في العقد الماضي، ولا يوجد ما هو أكثر دلالة على هذا الزخم من منح العالم الياباني «يوشينوري اهوسومي» في العام 2016 جائزة نوبل في الطب نظير أعماله في أبحاث الـAutophagy  أو ما يعرف بالـ»الالتهام الذاتي» وهي عملية يقوم خلالها الجسم بالتهام الخلايا والبروتينات القديمة أو الغير مهمة في الجسد واستهلاكها لبناء خلايا جديدة. ويعتبر الصيام من أهم محفزات هذه العملية.

أما الآن فدعونا نستعرض بعضاً مما نعرفه حاليًا عن فوائد الصيام على الجسد من منظور كيميائي-حيوي:

تحسين الصحة الذهنية: يستهلك الدماغ البشري 20% من كل الطاقة المستهلكة في جسم الانسان البالغ (تصل هذه النسبة لحوالي الـ 60% عند الأطفال)، لذلك فإن أول ما نستشعر تأثره في أجسادنا عند نقص الغذاء أو الأوكسجين عادة ما يكون الدماغ، لذلك قد نفترض للوهلة الأولى أن للصيام تأثير سلبياً على أداء الدماغ، إلا أن ذلك يخالف ما لمسه الباحثون على أرض الواقع، ففي دراسة أجريت بواسطة أكاديمية التغذية والحمية الأمريكية  Academy of Nutrition & Dietetics وجد الباحثون أن للصيام تأثير سلبياً على أداء الأطفال الذهني لمن هم بعمر 12 سنة أو أقل، ولكنه كان ذو تأثير إيجابي كبير على الأداء الذهني خصوصاً قوة الذاكرة للمراهقين الذين تزيد أعمارهم عن 13 سنة، كما خلصت الدراسة إلى أن للصيام تأثيراً على عدد ساعات النوم حيث قل عدد ساعات الحاجة للنوم عند المراهقين بمعدل 1.8 ساعات. أما الباحثون في جامعة كيبانغـسان الماليزية، فقد وصلوا إلى أن الصيام يحسن المزاج بشكل عام خصوصاً عند الكبار في السن.

ومن الممكن أن يعزى ذلك إلى ظاهرة «مقاومة الانسولين»، حيث أنه لتتمكن الخلايا من امتصاص سكر الجلوكوز الموجود في الدم فهي تستخدم الإنسولين المتواجد في الدم والذي يساعدها على امتصاص السكر لداخل الخلية، إلا أنه عند تواجد السكر والإنسولين بشكل مستمر وبمستويات تميل للحد الأعلى، تبدأ الخلايا بالإعتياد على وجود الانسولين في الدم بمعدلات عالية وتقل بذلك كفاءة الإنسولين واستجابة الخلايا له مما يسبب ضعف امتصاص السكر وتباعاً لذلك بطء الأيض داخل تلك الخلايا؛ مما يحفز ظهور أعراض الاكتئاب، ضعف الذاكرة، أو عدم القدرة على التركيز.

إلا أنه وُجِد أن للصيام قدرةً على «تصفير» هذه المقاومة وإعادة ضبط الخلايا لتعتاد على مستويات سكر وإنسولين طبيعيتين في الدم، وبذلك تعود الخلايا - خصوصا في الدماغ - للعمل بشكلٍ طبيعي وبنشاطٍ وسرعة أيض طبيعيتان.

الوقاية من الإصابة بمرض السكري: يعتبر معدل سكر دم بين 80 الى 140 ميليمول لكل لتر معدلاً طبيعياً، حيث يعمل البنكرياس في الشخص السليم على الحرص أن لا يتجاوز معدل السكر في الدم حد الـ 140 ميليمول لكل لتر عن طريق إفراز هرمون الإنسولين المذكور سلفاً والذي إضافة على فائدته في تسهيل امتصاص السكر لخلايا الجسم، يساعد على تخزين الزائد من سكر الجلوكوز في الدم في الكبد ليستخدم لاحقاً من قبل الخلايا، ولكن تناول الغذاء بين الوجبات باستمرار يعني أن البنكرياس سيضل يستمر في إفراز هرمون الإنسولين طيلة الوقت وهذا ما يسبب أيضاً «مقاومة الإنسولين» حيث تبدأ الخلايا بالاعتياد على وجود الإنسولين في الدم بمعدلات عالية وتقل بذلك كفاءته واستجابة الجسم له مما يسبب الزيادة التدريجية في معدلات السكر في الدم والذي بدوره يحفز البنكرياس على إفراز المزيد من الإنسولين وهكذا دواليك، وتعرف هذه المرحلة بـ «ما قبل السكري» (prediabetes) حيث تبدأ أعراض طفيفة لكن مشابهة لأعراض مرض السكري بالظهور الى أن يتحول الأمر في النهاية بالفعل إلى مرض السكري المرضي (diabetes type 2).

إلا أنه وجد أن للصيام مفعولاً كبير جداً في إيقاف تدهور الأمر، بل ومعالجته، حيث يعمل الامتناع عن الطعام لعدة ساعات متواصلة على تقليل نسبة السكر في الدم وإعادة ضبط الخلايا لتستجيب للإنسولين بمعدلات طفيفة في الدم ما يعني تقليل الضغط على البنكرياس، لذلك إذا كنت تشعر أنك في مرحلة ما قبل السكري (prediabetes) فاحرص على الصيام حتى في غير رمضان حتى لا تتطور حالتك لمرض السكري المرضي.

تبطيئ الشيخوخة والوقاية من السرطان: يقوم جسم الإنسان بتجديد خلاياه بشكل مستمر، حيث يتراوح عمر خلايا الدم الحمراء على سبيل المثال حوالي 3 إلى 4 أشهر، أما خلايا الجلد فتتجدد كل شهر تقريباً، ولكن هل سبق وسألت نفسك أين تذهب الخلايا الميتة أو الفاسدة؟ في الحقيقة يقوم الجسد بالتخلص منها ذاتياً عن طريق عملية كيميائية-حيوية في غاية التعقيد تسمى الالتهام الذاتي. فيها، تقوم جسيمات تدعى جسيمات الـ «يحلول» (Lysosome) بتفكيك هذه الخلايا القديمة الى أحماض أمينية أقصر يقوم الجسم لاحقاً بإعادة استخدامها لبناء بروتينات أكبر حجماً تستخدم في بناء خلايا الجسم المختلفة. لذلك فعملية الهدم الذاتي هذه من أهم العمليات الكيمياءُ-حيوية التي تساعد على تنقية الجسم من السموم وإعادة تجديده. فعند ضعفها، يبدأ ظهور الأمراض المزمنة المرتبطة بالشيخوخة بالإضافة لظهور الخلايا السرطانية المختلفة، ولكن وجد العالم الياباني أوسومي أن الصيام ينشط ويعيد تحفيز عملية الالتهام الذاتي في الجسم بشكل مثير للدهشة (تجدر الإشارة أنه مُنح جائزة نوبل في الطب نظير أبحاثه في هذا المجال).

أحمد بن محمد الفيفي

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA