منطق فهم وترجمة معاني القرآن

 

 

 

القرآن هو كلام إلهي منزّه عن الخطأ، تكفل بحفظه الخالق تبارك وتعالى من أي تبديل أو تحريف، وبالتالي لا يمكن ترجمته كما نزل، هذا هو المنطق الواضح الذي يؤكد استحالة وقوع ترجمة كلام الله، فما منطق فهم وترجمة معانيه ؟

عندما نعود لمفهوم المنطق نجد أنه «القانون الضابط لمبادئ التفكير والموجه للعقل البشري نحو الصواب»، من هذا التعريف نستطيع القول إن عبارة «ترجمة القرآن» يقصد بها في كل الحالات «ترجمة معاني القرآن»، وليس ترجمة كلام الله عز وجل كما نزل في كتابه الكريم، إذن المنطق هنا يؤكد قطعاً استحالة ترجمة كلام الله، إلا أنه بالإمكان ترجمة معانيه.

ترجمة معاني القرآن واقعة، وهي عبارة عن تفسير ناقل لمعاني كلام الله في لغة غير العربية، وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يتحقق بالشكل الصحيح إلا بواسطة مترجم متمكن ملم بعلوم القرآن من جهة وبجميع الجوانب الشرعية من جهة أخرى، أو بواسطة فريق عمل مكون من مختصين في الشريعة وعلوم القرآن وفي الترجمة، هنا يتلخص الأمر في مبدأ أساسي غاية في الأهمية لترجمة معاني القرآن، هو: أن الترجمة يجب أن تكون ناقلة للمعنى الوارد في أصل تفسير القرآن كما هو، وأن تكون صحيحة بإجماع المختصين، هذا مبدأ واضح وثابت لا جدال فيه، فترجمة معاني القرآن على وجه الخصوص لا تحتمل الخطأ وغير قابلة للاجتهاد، وهنا نستطيع التأكيد بأن منطق ترجمة معاني القرآن الكريم يقوم على أربعة جوانب أساسية لكل منها دوره وأهميته.

الجانب الأول يتعلق بالإدراك العقلي، ونقصد هنا الإدراك التام أن أصل لغة القرآن هي لغة اللوح المحفوظ، وأن كلام الله عز وجل في هذه اللغة لا يدركه إنسان، لأنها لغة تتطلب الإدراك بالإيمان والتقوى فقط فهي لغة نؤمن بها لا نسمعها ولا نقرؤها؛ محفوظة عنده سبحانه. قال تعالى في سورة الحجر: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)». وقال تعالى في سورة النساء: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163)». فالقرآن في الأصل هو وحي إلهي نزله الروح الأمين جبريل عليه السلام بلغة اللوح المحفوظ كما نزل الكتب السماوية الأخرى (التوراة، الإنجيل، الزبور، ... إلخ)، وتكفل الله عز وجل بجمعه وقرآنه في قلب محمد عليه الصلاة والسلام ليترجم معانيه ويبينها بلسان عربي؛ أي لسان قومه.

الجانب الثاني يتعلق بالإدراك الحسي للغات جميع الكتب السماوية التي أمرنا الله تعالى أن نؤمن بها ونصدقها. قال تعالى في سورة إبراهيم: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه (4)». فالزبور أنزله الله تعالى على داوود عليه السلام بلغة قومه، وجاء تأكيد بعض آياته من خلال لغة القرآن. قال تعالى في سورة الأنبياء: «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105)». ليس هذا فقط، بل هناك أيضاً آيات جاءت في صحف إبراهيم وموسى والتوراة ذكرت في القرآن. قال تعالى في سورة الأعلى: «قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15) بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17)». هذه الآيات لم تكن في الأصل باللغة العربية بل جاءت بلغة قوم إبراهيم وموسى عليهما السلام. وهذا ما يؤكده التفسير الميسر بأن ما ورد في هذه السورة «هو مما ثبت معناه في الصحف التي أنزلت قبل القرآن» (التفسير الميسر، ص 592). كذلك الإنجيل، فهو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام بلغة قومه أيضاً.

الجانب الثالث يتعلق بالإدراك العلمي؛ أي الإدراك أن كل ما جاء في صحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل والكتب السماوية السابقة لها يؤكد توحيد الخالق عز وجل ويحث على السلم والتسامح والإحسان وعمل الصالحات، وينهى أيضاً عن الفواحش كما جاء في القرآن الكريم، أما الجانب الرابع والأخير فيتعلق بالإدراك المعرفي للغات العمل، انطلاقاً من لغة القرآن التي اختارها الله لقوم محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى في سورة يوسف «إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون (2)»، أي قرآناً بلسانكم أيها العرب لكي تدركون معانيه وتفهمونها وتهتدون بها. هذه اللغة فضلاً عن كونها لغة القرآن فهي لغة أصيلة ومعاصرة وفيها إعجاز، وعندما تتم الترجمة منها إلى لغات أخرى فإنها تدخل بمعانيها في لفظ جديد ولسان جديد يحمل نفس المعنى في تلك اللغات.

وهنا في النهاية نلخص منطق فهم كلام الله وترجمة معانيه في الإيمان والتقوى أولاً، ثم الإدراك العقلي للغة الذكر المحفوظ، والإدراك الحسي للغات الديانات السماوية السابقة، والإدراك العلمي لدلائل وحدانية الخالق وحدوده عز وجل، والإدراك المعرفي التام للغة القرآن وجميع أحكامه الشرعية بالإضافة إلى اللغة المعنية بالترجمة، فهنيئاً لمن اجتمع في قلبه الإيمان والتقوى وفي عقله العلم والمعرفة فحضي بمسمى مترجم معاني القرآن الكريم.

د. الحسين محمد آل مهديه

كلية اللغات والترجمة

 

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA