الترجمة ودورها كراصد استراتيجي لمحاربة مهددات الأمن الوطني

 

تلعب الترجمة دورٍ جوهريٍ في المؤسسات والمنظمات الدولية لنقل المعلومات بدقة عالية تضمن الحفاظ على أمن جميع دول العالم بمختلف أديانها وثقافاتها. هذا يعني أنها يجب أن تكون لجميع الدول وسيلة أمن وتعزيز علاقات سلم وإخاء خارجية لا وسيلة تسويد حضاري ودمار فكري، وهنا يأتي دور الترجمة كراصد استراتيجي لمراكز مكافحة الفكر المتطرف، في هذا الصدد، نتجه مباشرة إلى ما يسمى في المجال الأمني «نمذجة العمل الحساس»، الذي يقوم به مترجمي (المركز العالمي لمحاربة الفكر المتطرف (اعتدال) على سبيل المثال، فهذا المركز يُعنى بمكافحة الفكر المتطرف بجميع أشكاله، وذلك من خلال استخدام تقنيات حديثة في رصد الأنشطة الرقمية للجماعات المتطرفة بجميع اللغات. وهنا تبرز المكانة التي تحتلها الترجمة في ظل تدفق المعلومات المتداولة على الإنترنت بلغات مختلفة وتحليل العديد من الرسائل الفكرية والإيدلوجية الموجهة إلى عامة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.

هذا الدور الأمني للترجمة يتضح عند العودة للمفهوم الصحيح للأمن الوطني، أي المفهوم الشامل المتوافق مع ما جاء في القرآن والسنة. لذلك نذهب مباشرة إلى ما أشار إليه الدكتور فهد الشقحاء في كتابه المنشور عام 2004 بعنوان «الأمن الوطني: تصور شامل»؛ حيث يؤكد أن «الأمن الوطني لا يخرج في معناه عن مفهومين: ضيق وشامل». المفهوم الضيق يشمل جانبين أساسيين تسعى جميع الدول لتحقيقهما؛ فهو عبارة عن حالة تتحقق «عندما تتحرر الدولة والإنسان فيها من مشاعر الخوف والقلق والتوتر لزوال ما يسبب تلك المشاعر من المخاطر الحسية. أي أنه عبارة عن حالة اطمئنان محدود تتحقق في الدولة لغياب نوع خاص من التهديدات التي تتعرض لها مصالحها وحقوقها المادية والمعنوية وتعرضها للعنف والإكراه». بينما المفهوم الشامل يدل على «معنى إيجابي يتضمن ما يشير إليه المفهوم الضيق إضافة إلى شعور الدولة بالاطمئنان لاستيفاء مواطنيها لاحتياجاتهم ومتطلباتهم المشروعة، بما في ذلك احتياجات الروح ومتطلبات تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية». هذا في الحقيقة هو المفهوم الواضح والدقيق للأمن الوطني، الذي من خلاله يمكن لنا فهم أهمية دراسة الترجمة كراصد استراتيجي في مركز اعتدال، فهذا النوع من الدراسة يمكن اعتباره تغييراً أو حداثةً في دور المترجم في عصر العولمة وثورة وسائل التواصل الاجتماعي وظاهرة «اللغة السيبرانية Cyber-Langage». ويمكن الإشارة هنا إلى ما يسمى في علم الترجمة «الترجمة الراصدة La traduction veille»، التي عرّفها البروفيسور ماتيو جيدير (GUIDERE Mathieu) في كتابة المنشور باللغة الفرنسية عام 2008 بعنوان: «الترجمة والرصد الاستراتيجي متعدد اللغات Traduction et veille stratégique multilingue» بأنها «نشاط الترجمة الانتقائية المستخدمة كعامل مساعد في اتخاذ القرار»؛ فهي بلا شك تتميز عن الترجمة المعتادة بطابعها الانتقائي والدور الحساس المتعلق باتخاذ القرار. وهنا تتلخص أهمية الدراسة التي أجريناها العام المنصرم وركزنا من خلالها على دور الترجمة والمترجمين في الحفاظ على الأمن الوطني الذي يظل واجباً على كل مترجم سعودي، فتحليل نماذج من المحتوى المتطرف الذي تم رصده وترجمته من قبل فريق مركز اعتدال على منصة تويتر كان كافياً لتأكيد أهمية دراسة الترجمة كوسيلة أساسية لمحاربة مهددات الأمن الوطني، وقد توصلنا إلى وصف دقيق لأهم المشاكل الشائعة التي تسبب صعوبة خلال عملية الترجمة. هذا بطبيعة الحال دفعنا نحو البحث عن سمات مشتركة في الخطاب الإلكتروني المتطرف كمحاكاة خطب الأئمة والخلفاء أو كما يطلق عليه علماء اللغة «التناص l›intertextualité»، حيث يلجأ الكاتب إلى اقتباس حديث نبوي أو آية قرآنية في سياق مختلف عن السياق الذي نزلت فيه بهدف تأييد الفكرة التي يرغب في زرعها في ذهن القارئ، واقتراض عبارات إسلامية لإضفاء الصبغة الدينية وتأكيد حجته، فاللغة السيبرانية تتميز بالاختصارات والصور التعبيرية وتسبب صعوبة على المترجم الآلي، بالإضافة إلى الأخطاء اللغوية التي تدل على ضعف المستوى التعليمي لدى «المتطرفين الإلكترونيين cyber-extrémistes». هنا يتجسد دور المترجم الراصد في الحفاظ على الأمن الوطني من خلال ترجمة الرسالة التي قد تبدو من الوهلة الأولى سهلة وبسيطة، لكن بمجرد البدء في ترجمة الخطاب المتطرف ومعرفة الأهداف التي تكون خلف هذه الرسائل الإلكترونية وتحليلها وتحديد الجمهور المستهدف وكذلك إنشاء قاعدة بالمصطلحات المتطرفة لتسهيل مهمة الرصد؛ نجد أن هناك الكثير من التحديات والصعوبات التي تتطلب مترجماً متمكناً. وهنا تتجلى أهمية تأهيل المترجمين المتخصصين (الراصدين) بشكل كافٍ يتناسب مع طبيعة الدور الحساس الذي يقوم به في الجانب الأمني وتذليل الصعوبات التي تواجههم في هذا المجال، علماً بأن عمل فريق المترجم الراصد في مركز اعتدال لا يقف عند هذه الحدود، فقد أشاروا في الاستبيان الذي وُجّه لهم إلى مشكلة ترجمة مصطلحين يسببان بشكل دائم تشويهاً للمفاهيم الإسلامية وهما (جهاد، وخلافة) وتأثيرهما على القارئ من وجهة نظرهم حين تم سؤالهم عن دورهم في محاربة مهددات الأمن الوطني. لهذا السبب أوجدنا ضمن أهداف دراستنا منظوراً جديداً لترجمة هذين المصطلحين، وأشرنا لضرورة تفعيل دور الترجمة في نشر خطاب مضاد للتطرف عن طريق رسائل (ثقافة الاعتدال) وحملات التوعية بكافة اللغات. وأكدنا في النهاية ضرورة إنشاء مشروعاً يضم مختصين من علماء اللغة والترجمة بغرض دراسة الخطاب المتطرف في كافة اللغات واعتماد منهجاً دقيقاً لترجمته.

 

 

أ. خديجة مفرح الزهراني

جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن

 

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA