الثقافة هي ما نحن عليه وما يشكل هويتنا، وهي منظومة متكاملة من المعارف والفنون والعادات والتقاليد والأخلاق والأفكار والخبرات التي يكون مصدرها الإرث الاجتماعي، أو ما نكتسبه في إطار المجتمع، وهي بلا شك عامل لا غنى عنه لأية تنمية مستدامة، ومحرك رئيس للاقتصاد بدايةً من التراث الثقافي وصولًا إلى الصناعات الثقافية والإبداعية التي تحقق الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للاستدامة؛ ولهذا الغرض ركزت اليونسكو على دور الثقافة في تحقيق غالبية أهداف التنمية المستدامة 2030. لا سيما إذا ما علمنا أن الصناعات الثقافية والإبداعية أصبحت من بين القطاعات الأسرع نموًا في العالم، إذ باتت بحسب إحصاءات منظمة اليونسكو تحقق عائدات سنوية تبلغ نحو 2250 مليار دولار، وتولِّد 30 مليون وظيفة، وتسهم بنحو 10% من الناتج الإجمالي العالمي.
ولطالما كانت المدن عبر التاريخ موطن الثقافة، والمحفز الرئيس لعجلة الإبداع الفني، ومركزًا للتحولات الاجتماعية والثقافية في كثير من مدن العالم شرقًا وغربًا؛ بتنوّع سكانها وأماكنها وشبكاتها الاجتماعية المتداخلة، وهو ما جعل اليونسكو تعمل على إعادة تصوُّر المدن وإعادة تعريفها من حيث مقوّماتها الإبداعية، بعد أن اختفت كثير من صناعاتها القديمة؛ وذلك من خلال تبنيها لمفهوم المدن المبدعة، وتأسيس ما بات يُعرف اليوم بشبكة المدن المبدعة، التي تهدف إلى إعادة تشكيل المدن، وجعل الثقافة والإبداع قوة دافعة للتنمية المستدامة من خلال تحفيز النمو والابتكار وتعزيز التماسك الاجتماعي والتنوع الثقافي ورفاهية سكانها، من خلال وضع الإبداع والصناعات الثقافية في قلب خطط التنمية في هذه المدن.
بلا شك أن «شبكة اليونسكو للمدن المبدعة» باتت تتصدّى للتحديات التي تواجهها المجتمعات، وتسعى لبناء مدن فاعلة محورها الإنسان وغايتها الإدماج المجتمعي حيث تركز على تسخير الثقافة والابتكار والصناعات المبدعة كمحركات للتنمية في مجمل برنامجها التنموي في سبيل بلوغ أهداف التنمية الحضرية المستدامة؛ إذ تلتزم المدن من خلال انضمامها إلى الشبكة بتقاسُم أفضل ممارساتها؛ لتعزيز إنشاء وإنتاج وتوزيع وترويج الأنشطة الثقافية والسلع والخدمات الثقافية المختلفة، وتطوير وتنمية مراكز الإبداع والابتكار، وتوسيع الفرص المتاحة للمبدعين والمهنيين في القطاع الثقافي، ومد جسور الحياة الثقافية بين البلدان والشعوب المختلفة، وتطوير الشراكات التي تدعم الإبداع والصناعات الثقافية.
تُغطي الشبكة سبعة مجالات إبداعية، وهي: الحرف والفنون الشعبية، التصميم، الأفلام، فنون الطهي، الأدب، الفنون الإعلامية والتكنولوجيّات الرقميّة، والموسيقى، والتي تعد مفاتيح لأبواب المدن الإبداعية حيث يتم تصنيف أي مدينة كمدينة إبداعية لليونسكو في هذه المجالات السبعة بناءً على أصولها وقدرتها في الثقافة والإبداع، وعلى محتوى خطة العمل المقترحة وتأثيرها ومدى انتشارها، ومساهمتها الحالية والمحتملة في الجوانب التنموية، فضلاً عن التزامها بخطة التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030.
ومنذ 2004 إلى اليوم، بلغ عدد المدن الابداعية المدرجة في هذه الشبكة 246 مدينة موزّعة على 90 بلداً، من ضمنها 18 مدينة عربية، هي: أسوان، والقاهرة (مصر)، الأحساء (المملكة العربية السعودية)، تونس، الشارقة (الإمارات)، تطوان (المغرب)، مأدبا (الأردن) وجميعها في مجال الفنون والحرف الشعبية. وانضمت بيروت (لبنان)، وبغداد، والسليمانية (العراق) في مجال الأدب، كما حلّت دبي (الإمارات)، الدوحة (قطر)، ومدينة المحرق (البحرين) في مجال التصميم، أما زحلة (لبنان)، ومدينة بريدة (المملكة العربية السعودية) فكان نصيبها في مجال فنون الطهي. وفي مجال الموسيقى جاءت رام الله (فلسطين)، أبو ظبي (الإمارات)، والصويرة (المغرب).
د. ياسر هاشم الهياجي
قسم إدارة موارد التراث والإرشاد السياحي
إضافة تعليق جديد