هل الترجمة خيانة للنص ؟

ثقافية رسالة الجامعة تسأل :

 

 

ـ المطابقة التامة في عالم الترجمة تكاد تكون معدومةً عموماً

ـ أسوأ المترجمين من يقتات على محركات الترجمة الآلية

ـ المترجم متهم رغم ثبوت براءته

 

د.أريج السويلم ـ رسالة الجامعة

د.محمد بن حسين الزهراني أستاذ اللغويات المساعد بقسم اللغة الفرنسية والترجمة يجيب :

يعود وصف الترجمة بالخيانة إلى المقولة الإيطالية (Traduttore, traditore) وتعني (المترجم، خائن). ويبدو أن وصف الخيانة التصق بالترجمة لسببين: إما لأنه حُكمٌ علمي واقعي كما سنرى، أو بسبب جناية بعض من ينتسب لهذه المهنة عليها. وهذا السبب الأخير هو الذي جعل الكاتب الإسباني خوليو سيزار سانتونيو يعنون كتابه ب»El delito de traducir» وتعني: «جريمة الترجمة»، الذي أكد فيه أن القارئ يتعرض للخداع والسرقة بشرائه كتباً مترجمةً ترجمةً سيئة. وقد تناول كثير من الباحثين والكتَّاب مسألة الخيانة هذه وناقشوها من زوايا مختلفة. وفي هذه الأسطر سنناقش أوجه هذه الصفة ودلالتها، وهل هي صفة مذمومة على الإطلاق؟ وهل يمكن أن تكون الخيانة في الترجمة محمودة؟

يمكن أن تُفسَّر مقولة (الترجمة خيانة للنص الأصلي) على وجهين، الأول: الانتقاص من عملية الترجمة عموماً. والثاني: أنه ليست هناك ترجمة تنقل المعنى نقلاً دقيقاً تاماً. أما الوجه الأول فهو الفهم الظاهر الذي قد يفهمه غير المتخصصين، ولا يصح التسليم به؛ لما فيه من انتقاص من مهنة عظيمة ساهمت في نقل المعارف، وتطور الحضارات، وبناء جسور التواصل بين الشعوب، ونشر السلام في العالم. أما الوجه الثاني فهو المقصود بتلك المقولة، ويتلخص معناها في أنه لا توجد ترجمة مطابقة تماماً للنص الأصلي. وهذا أمر طبيعي وواقعي، فالمطابقة التامة شبه مستحيلة. ولذلك يرى الكاتب جورج شتاينر أن تسعين بالمائة من الترجمات- منذ بابل- خاطئة وستظل كذلك دائماً. أما المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي فيقول: «الخيانة وعدم الوفاء شيء جوهري في كل ترجمة».

إن كل مهنة يمكن أن يوصف صاحبها بالخيانة، كالطب والهندسة والتعليم ونحوها. ولذلك يسعى كل عامل في تلك المهن إلى أن يبذل أقصى ما في وسعه لإتقان عمله وتقليل الخطأ فيه. ولا يأتي ذلك إلا بمعرفةٍ نظريةٍ واسعة وتطبيق عملي دقيق ومستمر. وكذلك الترجمة، لابد أن تتوفر في صاحبها أمور عدة حتى تكون ترجمته أقرب للصواب؛ لأن المطابقة التامة في عالم الترجمة تكاد تكون معدومةً عموماً. ومن تلك الأمور المهمة: المعرفة العميقة باللغة الأجنبية، لاسيما التفريق بين المعنى الحرفي أو الدلالي المباشر (Denotation) والمعنى الضمني (Connotation) الذي قد يعطي دلالات أخرى غير المعنى الأول للكلمة، ويكون مرتبطاً بمشاعر أو عواطف أو سلوكيات معينة. والإلمام باللغة الأجنبية وفهم النص الأصلي لا يكفيان، فلابد من معرفة كيفية إيصال النص وأفكاره بلغة عربية فصيحة وأسلوب لغوي واضح، وأن يتسم النص العربي بالمقروئية. وأعتبر أن هذه الأخيرة هي ما يغفل عنه بعض المترجمين، ولذلك قد نقرأ نصاً صحيحاً من ناحية الترجمة لكنه مبهم من ناحية المقروئية، فيصعب على القارئ العربي إدراك معانيه. ويحدث هذا بسبب التأثر باللغة الأصل ونقل ما لا يجب نقله منها للعربية. وأقصد بذلك الأساليب والصياغات وبعض الحكم والأمثال والعبارات الاصطلاحية ونحو ذلك مما تجب ترجمته بما يقابله في اللغة العربية. ولابد ألّا يغفل المترجم أيضاً عن الجوانب الإنسانية والثقافية وغير ذلك مما يؤثر في عملية الترجمة. وكم من متطفل على الترجمة ممن أسميهم «لصوص الترجمة»!، أولئك الذين اعتنقوا الخيانة المذمومة، الذين لا يحسنون فهم اللغات ولا يفرقون بين خصائصها وأساليبها، ولا يتصفون بصفات المترجم الحقيقي. وأسوَؤُهم من اعتاد الاقتيات على ما تنتجه محركات الترجمة الآلية من نصوص ميتة محاولاً تزيينها وتنميقها، ومن ثم بيعها على أرصفة شبكة الإنترنت ومنصاتها المشبوهة. ومن جرأتهم يرسلون تلك الترجمات الآلية الركيكة - مذيلة بأسمائهم - للمترجمين المحترفين بهدف تدقيقها وتنقيحها مقابل ثمن بخس، وقد يفوق ذلك جهد ترجمتها في المقام الأول.

الترجمة إذن أكبر من أن تكون نقلاً لكلمات وإتقاناً للغات، بل هي مبنية على اتخاذِ قرارات وحل مشكلات، وهي إلمامٌ بجوانب غير لغوية سواءً أكانت ثقافيةً أم حضارية. وهذا ما يدفع المترجم الجيد - عند ترجمة نص معين- للموازنة بين أمور عدة حسب طبيعة النص، فهل يكتفي بنقل المعنى من لغة إلى لغة؟ أم يضع النص الهدف في سياق ثقافي جديد ؟أو يصهره في قالب حضاري موازٍ؟ أو أنه ربما يترجم شيئاً يفوق ذلك كله؟ وأعني بذلك روح النص؛ لأن هناك من يقول: إن النص الأصلي حي وله روح، ولابد للمترجم ألا يقتل تلك الروح. أوليس الالتزام الشديد بالنص الأصلي قتل لها؟ إن الإفراط في الأمانة وشدة الارتباط بالنص الأصلي يؤديان إلى قتله، فلابد عند نقل روح النص الأصلي أن يخلق المترجم من ذلك النص نصاً جديداً بروح جديدة وبطريقة إبداعية. ولذلك أُطلق على المترجم صفة «كاتب» و»مؤلف»، وللمترجم الفرنسي البرتغالي كارلوس باتيستا كتاب جميل موسوم ب (المترجم كاتب الظل).

في ضوء ما سبق، ألا تحتاج الترجمة إلى شيءٍ من الخيانة حتى تكون ترجمةً جيدةً وإبداعية؟ وماذا لو كانت الترجمة أفضل من النص الأصلي؟ أليست هذه خيانة محمودة؟ أسئلة تحمل تناقضات غريبة، لكنها مع ذلك متداولة في أوساط المترجمين.  يرى المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي أن صفة «الخيانة « تُعد «فضيلة». أما المترجم الفرنسي بيير ليرليس الذي نقل أهم الأعمال الأدبية الإنجليزية إلى الفرنسية فقد قال: إن من الأمانة أن نعوّل في عملية الترجمة على نقص في التلميح، أي أن ثمة قصورًا حتميًّا في عمليتي فهم المعنى والتعبير عنه. وقد ذهب المترجم المغربي محمد جليد إلى أبعد من ذلك فقال: إن الترجمة الإبداعية تحتاج لجرعة خيانة. وفي كتاب «المترجم كاتب الظل» فصلٌ حمل عنوان (فن الخيانة)، حيث يقول باتيستا: «في أحسن الظروف، الترجمة تزييف ناجح واحتيال أنيق، وفي أسوأ الظروف هي عمل حفار قبور وشهادة وفاة» (ترجمة: محمد آيت لعميم).

في الختام، أرى أن المترجم متهم رغم ثبوت براءته، وحبيس في زنزانة رأي القارئ والمتخصص، فإذا مال نحو الحرفية فهو ضعيف غير متمكن، وإن حلق نحو الإبداع رُمي بسهام الخيانة المذمومة. وإذا همَّشَ لترجمته فهو غير محترف، وإذا لم يُهمِّش فهو لا يحترم القارئ. ولذلك لا يمكن أن تكون هناك ترجمة كاملة؛ لأنه ليس هناك معيار ثابت لدى القراء وحتى المتخصصين منهم، فكل واحد يتبع مدرسةً أو يعتنق رأياً. وقد وقفت على هذا بين زميلين من مترجمي الأدب: أحدهما يرى ترجمة الشعر نثراً، والآخر يرى أهمية الوزن والقافية. وبين كل تلك الآراء يقف المترجم حائراً وخائفاً من وصمة الخيانة. فلك الله أيها الخائن الأمين!!

 

 

 

 

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA