العفوية في مشهد الحياة العبثي

 

 

العفوية هي جملة من التصرفات التلقائية للفرد دون تعمد أو رغبة في ذلك أو مبالغة لإثارة إعجاب الآخرين، والإنسان العفوي لا يبحث عن رضا الآخرين، إنما يتصرف في المواقف من تلقاء نفسه، وفقاً لشخصيته ومبادئه وأخلاقياته وتربيته وإنسانيته. فالعفوية صفة جميلة تكره المجاملة وإظهار ما لا يُكنه الفرد أو يؤمن به.

الشخص العفوي  يملك عادةً مشاعر نبيلة وصادقة، ولا يلجأ إلى استخدام وسائل دنيئة كالكذب والنفاق والتزلف للوصول إلى غاياته، بل يتخذ الحقيقة والصدق معياراً لحياته وتعاملاته وعلاقاته. كما أن الشخص العفوي يقول الكلمة ويعيش اللحظة دون تخطيط مسبق أو كلام منمق ليس له معنى، بل هو أشبه بالمغامر الذي يتزلج على الجليد بأناقة وأريحية، دون أن يخاف أن يقع أو يتأرجح. يقول السيد مراد الغيثي في مقال له عن الشخصية التلقائية العفوية إنّ « الشخصية العفوية التلقائية هي التي تقوم بكل أفعالها وتصرفاتها بدافع ذاتي داخلي بدون أي تأثير خارجي من الآخرين»، إذ تعبر الشخصية العفوية عن مشاعرها وأفكارها دون تفكير أو تأثير من الآخرين المحيطين بهذه الشخصية.

الشخصية العفوية تكون عادةً محبوبة ومرغوبة لعفويتها وتلقائيتها، فهي شخصية لا تحسن تصفية الحسابات، ولا تتقن فن خلط الأوراق لتحقيق الغايات بغض النظر عن الوسائل. يقول الدكتور طارق الحبيب في تغريدة له على موقع التدوينات القصيرة تويتر: «العفوية والتلقائية في الحديث من سمات الشخصية المتزنة المسترخية، والتصنع والتكلف مؤشر على ضعف مهارات التواصل».

ومع ضغط الواقع، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، التي تخلق عوالم افتراضية غير حقيقية ولا صادقة؛ لأجل الحصول على الثناء أو الوصول للثراء، تصبح العفوية والتلقائية عملة نادرة، وعملية صعبة؛ لأنها باختصار لا تحقق الانتشار، ولهذا تنتشر وتشتهر كثير من التصرفات الشخصية المتكلفة التي يتصدر مشهدَها العبثي بعضُ نشطاء مواقع التواصل الذين يتسابقون لتصدّر الترند، والتواجد في المسرحيات التي يصنعونها بأنفسهم؛ لتحقق لهم غاياتهم السخيفة، حتى بات بعضهم يستسيغ لعب دور الأبله، والأخر دور الأحمق؛ ليضمنوا مكاناً لهم في الأحداث، كما ضمن ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد مكاناً في التاريخ.

خطورة هؤلاء أنهم رسموا إطاراً مشوهاً للانتشار، ووضعوا معايير خاصة للنجاح، وصنعوا أدوات حادة للثراء، ليس من ضمنها العفوية والتلقائية والمصداقية والنزاهة، حتى بات هؤلاء النشطاء هم القدوة عند الأجيال الجديدة مهما كذبوا وتصنعوا وتكلفوا وعبثوا بالمبادئ والقيم وأخلاقيات المجتمع وضوابط الحياة. يقول الأستاذ عادل الزبيري في مقال له بعنوان (في مواجهة مع عبث التواصل الاجتماعي): «وتبقى أول جريمة لمواقع التواصل الاجتماعي هي إعطاء الحق للأحمق للتعبير عن رأيه، وتحويله إلى صانع للرأي العام، فيما يجري إخراس المثقف الواعي، لأنه صوت العقل.»

مارِسوا العفوية واجعلوها من صفاتكم الشخصية، وشجعوا أولادكم عليها، وعلموهم آدابها وفوائدها؛ حتى لا يجرفهم تيار التكلف والإثارة الرخيصة فيخسروا عفويتهم، ويصبحوا هدفاً للتنمر وسخرية المجتمع، فالإنسان قد يحقق الثراء والشهرة والانتشار، لكنها يوماً ما ستزول، ويبقى الأثر الطيب والخاتمة الحسنة وثناء الناس، « أنتم شهداء الله في الأرض.»

 

د. خليل اليحيا

كلية الطب

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA