ذاتية الإنسان ومادية التفكير العلمي

 

 

في واقع الأمر لم ينفك ذهني عن التفكير والانشغال بقضية باتت تؤرق العقل البشري، وظلت تشغل الكثيرين من المفكرين والفلاسفة على الدوام ؛ألا وهي ماهية العلاقة بين ذاتية الإنسان وما تتضمنه تلك الذاتية من خصوصية تتعلق بمخزونه القيمي وثقافته المكتسبة وإنسانيته وبيئته المحيطة به،  بينه  وبني جلدته من البشر من ناحية وبينه ومادية التفكير العلمي من ناحية أخرى ، وإلى أي مدى يمكن أن تصل درجة التطابق بين هذه وذاك؟ أهما ضدان؟ أم متطابقان؟ ولعل من المفيد أن نشير إلى أن هذا الموضوع ذا العنوان الفضفاض ينقسم إلى شقين: الأول يتعلق بالذات أو الهوية الإنسانية وما يدور حولها من فلسفات نقدية، والآخر يتعلق بالتفكير العلمي وتوصيفه توصيفًا  واضحا .  ولعلنا بصدد محاولة توضيح كلا الشقين؛ فالتفكير بمعناه المجرد هو إعمال العقل أو تشغيله في أمر ما ، وهو أهم ما يميز الجنس البشري، فعلى حد قول الفيلسوف الكبير ديكارت وأطروحته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود» التي لم يقصد بها الوجود المادي؛ بل قصد الوجود الفعلي الفعّال.وعليه نرى أن التفكير هو عبارة عن إجراء ذهني يقوم به العقل بصدد ما يمر به في الحياة، وإن كان العلم المعرفي في جوهره يهتم بدراسة الظواهر بُغية التوصل إلى نتائج محددة ترتبط بتلك الظواهر التي لا يمكن فهمها فهماً صحيحا بالمعنى العلمي إلا بمعرفة طبيعتها و أسبابها ، وبناء عليه يمتاز التفكير العلمي بسمات تميزه عن غيره من أنواع التفكير الأخرى ، كالتفكير الموضوعي و التفكير غير الموضوعي (العشوائي أو العاطفي أو ذي الميول الخاصة)  و التفكير المنطقي كذلك....إلخ. وتتضح ملامح المعرفة العلمية للنشاط الفكري الإنساني  في مجموعة من الخصائص وهي: التراكمية ، والتنظيم ، والبحث عن السببية ، والشمولية ، والدقة والتجريد. وللتفكير العلمي منهج أو طريق يسلكه للوصول إلى حقائق الأمور و الكشف عنها أو عن طبيعة الظواهر مناط الدراسة .وبالتالي يمكن لنا أن نقول إن التفكير العلمي «هو عبارة عن مجموعة من الإجراءات الذهنية التي يقوم بها العقل البشري بصدد دراسة ظاهرة ما؛ بغية التوصل إلى نتائج تخص تلك الظاهرة باستخدام المنهج العلمي» . و تتجلى الرؤية المادية والمتعلقة بالتفكير العلمي داخل العقل لكونه يُخضِع دراسة الظواهر المختلفة الطبيعية منها والإنسانية إلى معايير مادية.

 وهذا ما يجعلنا ننتقل إلى الشق الثاني من الموضوع ، ألا وهو البحث عن الذات، ونحن لا نركن هنا إلى التطابق الاصطلاحي بين الذات و النفس البشرية، فالنفس البشرية هي من إبداع الخالق عز وجل ‭{‬ وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورهَا وَتَقْوَاهَا ‭}‬، ولكننا نقصد بها هوية الإنسان ، فهي وليدة تفاعلات يشترك فيها العقل البشرى في حلقة لا تنتهي من التفكير الدائم والمستمر مع الطبيعة والبيئة الجغرافية ،ومع بني جلدة الإنسان، ومع غيره من الشعوب الأخرى ،وتظل حركة العقل الإنساني بوصفه عقلا توليديا يُبقي ويضخّم ويهمش ويضيف ويحذف، في عملية تدور حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان، هذا النموذج  في صميمه هو رؤيته للكون. ومن هنا تكتسب الهوية فرادتها وتركيبتها التي لا يمكن ردها إلى قانون أو نمط مادي.

 

ولعل البعض لم يكترث بالتساؤل الذي طُرح سابقًا إلا ما كان من القليل من الكتابات الجادة لبعض المفكرين، حيث ينطلق الكثيرون من الرؤية المادية التي يسمونها «علمية»، فيدرسون الهوية في إطار النموذج المادي كما يفعل كثير من الدارسين في الغرب ، وهنا يعني استخدام النموذج المادي استخدام الحواس الخمس، كما يعني دراسة الظواهر الإنسانية كما تُدرس الظواهر الطبيعية، ومثل هذا المنهج يودي بالهوية تماماً، لأنه لا يتعامل مع الواقع إلا من خلال معايير مادية، وهي معايير عاجزة بطبيعتها عن رصد الهوية في كل تركيباتها وفرادتها. وقد أدى هذا المنهج إلى تعريف الإنسان باعتباره «الإنسان الطبيعي»، بمعنى أنه إنسان يتسم بسمات عامة «أضيفت» إليها الحضارة، أي أنها ليست أصيلة فيه. وبذلك تتحول الهوية إلى مسألة مضافة آليا، مجرد زخرفة، وهكذا يصبح المشروع الإنساني هو العودة إلى الإنسان الطبيعي متجاوزين الزخارف الإضافية. وهذه الفكرة عبرت عن نفسها في فكر حركة الاستنارة الغربية (التي نصفها بأنها عقلانية مادية) كما تعبر عن نفسها فكرة العولمة، فالعولمة  -في جوهرها- هي العودة إلى هذا الإنسان الطبيعي، الذي لا يعرف الحدود أو الهوية أو الخصوصية، وليس عنده أي إدراك أو اكتراث بالقيم الأخلاقية والمعنوية مثل: الكرامة، والارتباط بالأرض والوطن، والتضحية؛ ولذا نجد أن خطاب العولمة يتحدث عن حرية انتقال السلع ورأس المال، والشركات العابرة للقارات وحدود الدول، ولا يذكر شيئاً عن الثقافات أو الهويات المختلفة.

مما سبق يتضح لنا  أن التفكير العلمي المنهجي له أصول وقواعد تستوجب الالتزام بها ،ولا ينبغي أبدا التخلي عنها، وإن كان الواجب في النهاية أن ينبع هذا التفكير من أعماق الذات البشرية بمكنوناتها الخاصة؛ أي ما يمكن أن نطلق عليه هوية التفكير العلمي. وبهذا يتوحد الاتجاهان ويصبحان وجهين لعملة واحدة، و وفقا لهذا تتقدم الأمم وتتحرر من براثن التنميط والتقليد، ويظل العقل البشرى يفكر ويبحث عن الحقيقة، وسواء أكان أسلوب التفكير علميًا أم موضوعيا أم منطقيا بل حتى فلسفيًا يبقى في النهاية سؤال يحتاج إلى إجابات قد نتفق حولها أو نختلف:  هل يمكن أن يحيا الإنسان ذو التفكير العلمي الممنهج في عوالم منزوعة الذات أو العكس؟ و إلى أي مدى يمكن أن يتغول أحدهما  الآخر ؟ على أية حال تظل عملية الحذف والإضافة والتهميش والتضخيم من سمات النفس البشرية.

 

د.نهاد أحمد مكرم عبد الصمد

قسم العلوم السياسية

كلية الحقوق والعلوم السياسية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA