دون كلام

 

قبل أربع سنين وعدة أشهر أصبتُ باكتئاب حاد؛ كنتُ كمن يجرح نفسه ثم يداويها، أسحبُ سكين اليأس على ذراعي ثم أمتصُّ آلامي منه، فيعود الألم لينبض به قلبي. كان وحشًا يضاهي الخوف منه خوفك من الموت.

 ظننتُ أن الموت يضارع الألم والمرض والضعف فأخطأ ظني؛ قد يأخذ الموت من يعيش في لحظة رفاه ودَعة وهو كما أي إنسان عاشَ بظلِّ السلامة «يموت قويًا». وقد يكون الموت بعيدًا جدًا على من تخللته الآلام وأدمت أعمق شيء فيه: روحه.

وكتابي: عقل لا يشيخ ونفس لا تهدأ؛ كنتُ أكتبه لأقاومَ الوجع؛ ولأنسى الغياب؛ وحتى أضيّع الفرح فيَّ أركض على حدّة سراط الحياة لأخفف من التشظي النفسي قبل أن يذهب كل شيء عني. وبإعمال عقلي، بكل ما بقي مني، تسرَّبت روحي دون شعور لأكتبني وأوثّق الأيام التي ظننتها آخر أيامي ومنتهى عُمري الفاتن رحيلا.

طاقتي انحسرتْ، لم أعد تلك الصبية الضاحكة السافرةُ جمالًا. وكل منقذي النفس المتوفرين آنذاك يصغّرون هول ما أراه. ولأني أملك إرادة نافذة وكبرياء جامح وحزم لا يغيب؛ كذّبوني بقولهم: «لا تبالغي، وانظري للجزء الممتلئ من الكأس!»، هل أكسر الكأس ليرتاحوا؟ أم أشرب الباقي ضنًى لا استساغة فيه؟ ولما جهلوا إمكانية نفسي للتصبّر على أقسى الصروف والظروف (بابتلاع بكائها) وجدوني شخصًا عادياً أفتعل الكسور النفسية (حينما تحدثت)، وليتهم يقرؤون! يقرؤون لعلهم يفهمون حقيقة الأمر. لم يهتم أحد لصوتي فتمثّلتُ الصمت حتى هذه اللحظة التي أكتب...

مرايا نفسية تشتت عقلك، وتنكسر كلها فيك. تجمع عقلك أنت دون ترتيب وهو ينزف بتبذير وبخسارة وبهدر. لم يهتم لي شخص فلم أهتم أنا لأحد. هجرتُ قطاعات العلاج ونهضتُ أغالب الاكتئاب بالكتابة وبالقراءة لأحوز على نفسي، على الأقل نفسي يا رب! ما إن نشرتُ كتابي لم أشعر باللذة الأولى من كل شيء، شيء لأول مرة يجربه الإنسان. ولكن مع نشره أرجعتُ جزءًا كبيرًا من النفس على حاله الأول، وقد ضارع حالي ذاك فقد الشهية العصبي. طاقة جسدي ضئيلة الآن، وذكرياتي أُنسيتُ أغلبها، لم يبقَ إلا قناديل تضيء مفارق طُرُقات. ربما كل ذاك جعلني أكبر أعوامًا حتى جعل بعضي يغترب عن بعضي الآخر واستحال عن كليهما الوطن.

 أما وقد انتهت أيامٌ، بقيتْ أيام أعوض بها سنينًا محسوبة عددًا دون معنى «العيش» فيها. وبما أني عميقة كعمقٍ لا نَفَس فيه؛ أكادُ أختنق وأنا أداوي غور نفسي المنسي، وأجمع هذا القلب الذي انسكب حتى آخره. طريقٌ واسعٌ طويل، ووحدي: أنا والليل والكتابة نمضي معه!

 

عائشة الريّس

مبادرة مداد للكتابة الإبداعية

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA