العين الزرقاء (عين الأزرق)

 

 

العين الزرقاء من أشهر عيون المدينة المنورة، أجراها مروان بن الحكم  عندما كان والياً على المدينة المنورة، وذلك بأمر من الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان في حدود عام 51هـ/ 670م. اتفق معظم المؤرخين على تسميتها بعين الأزرق، إلا أن العامة أطلقوا عليها منذ القدم اسم العين الزرقاء، ويُذكر أن السبب في كلا التسميتين هو أن مروان بن الحكم الذي أجراها كان أزرق العينين، فلذلك لُقب بالأزرق، فنُسبت العين إليه. 

أصل العين من بئر كبيرة تسمى بئر الأزرق معروفة، موضعها في حديقة نخل (بستان الجعفرية) بقباء غربي مسجد قباء، ويخرج ماء العين الكثير ويجري في قناة تحت الأرض، حتى يصل إلى المَنْهَل (مفرد مَناهِل أي المشرب والموضع، وهو أيضاً الشرب والمنازل على الماء) الواقع أمام مسجد الغمامة غربي المسجد النبوي، وهذا المنهل عبارة عن قبة كبيرة مقسومة نصفين، يجري الماء منها في وجهين وجه جنوبي، ووجه شمالي، وفي كلا الوجهين درج تحت الأرض ينزل منه الناس لأخذ المياه من العين، أما ماء العين فيخرج من شرقي القبة، ثم يتجه نحو الشمال، حتى يصل إلى سور المدينة فيدخل من تحته، فيصل إلى منهل آخر بوجهين مدرجين عند قبر النفس الزكية (هذا المنهل في الغالب لم يكن للشرب، وإنما كان مخصصاً للغسيل وسقي النخيل، وخلاف ذلك)، ثم يخرج الماء من هناك، ويجتمع في قناة واحدة إلى البركة التي ينزل عندها الحجاج الشاميون عند ورودهم وصدورهم في شمال غرب المدينة المنورة عند جبل أحد. 

وفي سنة 560هـ/1164م قام الأمير سيف الدين بن أبي الهيجاء بأخذ شعبة من عند مخرج العين من الجهة الشرقية لقبّة المنهل الذي أمام مسجد الغمامة، فساق هذه الشعبة إلى باب المدينة الغربي المسمى باب المصلى، ثم أوصلها إلى الرحبة التي عند المسجد النبوي من جهة باب السلام، وبنى لها منهلاً بدرج من تحت الدور، يستقي منه أهل المدينة، وينتفعون به، وجعل لها مصرفاً من تحت الأرض، يشق وسط المدينة على الموضع المعروف بالبلاط (سوق العطارين)، ثم يخرج إلى ظاهر المدينة من جهة الشمال، شرقي حصن أمير المدينة.

كما أخذ ابن أبي الهيجاء من هذا المنهل الذي عمله عند المسجد النبوي شعبةً صغيرة تدخل إلى صحن المسجد النبوي، وجعل لها بركةً كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب، ينزل الناس إليها بدرجات أربع، والماء ينبع من فوارة بوسط البركة يتوضأ منها من يحتاج إلى الوضوء، ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج، وبقية السنة تكون فارغة، إلا أنه حصل في ذلك انتهاك حرمة المسجد من كشف العورات والاستنجاء في المسجد، فسُدت لذلك، ويقال إن الذي عمل هذه البركة هو بعض أمراء الشام واسمه شامة.  

كانت العين الزرقاء تمد المدينة المنورة بالمياه العذبة عبر مئات السنين، وانتفع بها أهل المدينة في شربهم وسقي نخيلهم، وأغراضهم المختلفة. ظلت العين ومناهلها موضع عناية الملوك والأمراء على مر التاريخ، وأُجري عليها الكثير من أعمال التجديد والإصلاح. 

خربت العين في أوائل حكم العثمانيين، فبقيت مدة ًمهملةً حتى لحق أهلَ المدينة جهد شديد بسبب قلة الماء، فقام السلطان سليمان القانوني بتعميرها سنة 932هـ/1526م، ثم خربها السيل، فعمرها السلطان مراد الثالث سنة 990هـ/ 1582م، وفي سنة 999هـ /1591م  جرف السيل بعض أجزاء العين للمرة الثانية فقام السلطان مراد بتجديد العين مرة أخرى. 

كما أُضيفت إلى العين آبار عدة في أوقات متفاوتة؛ وذلك لزيادة مائها، منها: بئر غربال الذي أُضيف إليها في سنة 990هـ/1582م، فزادت مياهها أضعاف ما كانت عليه، وفي سنة 1111هـ/ 1699م أُضيفت إليها بئر عِقد، كما أُضيفت إليها بئر أريس، وبئر بُوَيْرة، وأيضاً أُنشئ للعين- إضافة إلى المناهل المذكورة سابقاً- الكثير من المناهل في المدينة، وأُمدت العين بينابيع متعددة تتصل بمجراها الأصلي بواسطة قنوات في جوف الأرض. بعد ذلك ظلت العين الزرقاء ومناهلها التي أُضيفت إليها تسقي أهل المدينة، كما تم تجديدها وإصلاحها أكثر من مرة كلما تعرض مجراها للخراب، وكان آخر تجديد أُجري للعين خلال العصر العثماني  تجديدَ السلطان عبد المجيد سنة 1262هـ/1846م. 

 في أواخر عهد الدولة العثمانية سنة 1326هـ/1908م أُنشئت الأنابيب الحديدية، وبالتالي استُغني عن قناة العين الحجرية، وفي سنة 1332هـ/1913م ظهرت الكباسات لأول مرة، حيث كانت نواة مشروع توصيل المياه إلى كل بيت من بيوت المدينة المنورة، وهي عبارة عن حنفيات بمجرد فتحها تفيض منها المياه.

في عهد الملك عبد العزيز (رحمه الله) تم الاهتمام بتطوير خدمات المياه في المدينة المنورة لسقيا المواطنين والزوار، فجعل للعين سنة 1344هـ/1925م هيئةً رسمية مستقلة بكاتبها وأمين صندوقها، وكانت العين في السابق تابعةً لبلدية المدينة المنورة، وتهتم هذه الهيئة بتعمير مجاري العين وترميمها وتأمين إيصال الماء إلى الكباسات، وفي سنة 1349هـ/1930م أُنشئ للهيئة مبنى خاص بجانب المنهل الذي بجوار باب السلام، وقد أُزيل هذا المبنى وأيضاً المنهل في مشروعات توسعة المسجد النبوي في عهد الملك عبد العزيز.

 

المبنى الخاص لهيئة العين الزرقاء الذي تم تشييده سنة 1349هـ /1930م بجانب المنهل الذي بجوار باب السلام بالجهة الغربية من المسجد النبوي. ( المصدر: الخياري، التحفة الشماء، ص 29 ).

 في عهد الملك سعود قامت هيئة عين الزرقاء بتقديم الخدمات اللازمة للمواطنين وتوفير المياه اللازمة لهم، فحفرت عدة آبار للسقيا سُميت (مناهل سعود)، وأُنشئت شبكة أنابيب وخزانات لسقيا المدينة، منها خزانان دائريا الشكل بجوار موقع العين الزرقاء. وفي عهد الملك فيصل أُنشئت الكثير من خزانات المياه، والكثير من الآبار، كما بدأت شركات متخصصة في التنقيب عن مصادر المياه الصالحة للشرب في منطقة المدينة المنورة. 

في عهد الملك خالد تزايدت الأعباء على إدارة العين الزرقاء، فكان لا بد من وجود هيئة مستقلة تقوم بتقديم الخدمات اللازمة للمواطنين، فأُنشئت مصلحة مياه ومجاري المدينة المنورة، وذلك في سنة 1398هـ/1978م. ثم بعد ذلك بدأت العين الزرقاء تختفي شيئاً فشيئاً، حيث تم  إيجاد مصادر إضافية للمياه من تحلية وحفر آبار، وإنشاء محطات ضخ وخزانات وشبكات مياه وأبراج، وفي سنة 1400هـ/ 1979م افتتح الملك خالد مشروع تحلية المياه بينبع، الذي أصبح يغذي المدينة المنورة بالمياه المحلاة. 

وفي عصرنا الحاضر اندرس أثر العين وما يتصل بها من مناهل وخرزات وآبار، حيث إن معظم مناهل العين وخرزاتها كانت تقع داخل أحياء المدينة المنورة التي أزيلت لمواكبة التطور العمراني، وتزايد عدد سكان المدينة، وتبقى القليل من الخرزات الموجودة في بعض المزارع المملوكة لبعض المواطنين في قباء (تحتاج إلى مسح وتوثيق للمحافظة على ما تبقى منها).

 

د. محمد بن شبيب السبيعي

قسم الآثار، كلية السياحة والآثار

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA