كيف وظف الروائيون العرب تاريخ الأندلس وحضارتها ؟

ثقافية رسالة الجامعة تسأل:

 

الروائي غير ملزم بمطابقة التخييلات السردية للمرجعيات التاريخية

 

الروائيون  يعيشون حالة من (النستولوجيا) أو الحنين للماضي

 

 

رسالة الجامعة – أريج السويلم:

 

تجيب الأستاذة سارة بنت عيد القحطاني المعيدة في قسم اللغة العربية وآدابها والمتخصصة في الأدب الأندلسي :

 

  يجتمع الأدب والتاريخ في كونهما خطابان سرديان، إلا أن التاريخ خطاب واقعي حقيقي عن الماضي، بينما الرواية خطاب أدبي فني تخييلي، ومن هنا اتخذت الرواية من التاريخ نواة لينطلق منها خيالها، ليعيد - أي التخييل التاريخي- كتابة التاريخ وفق رؤية الروائي وتصوراته. وهذا ما يميز الروائي عن المؤرخ الذي يتحرى الدقة، ويتقصى الحقيقة، والروائي بتوظيفه للتخييل التاريخي  غير ملزم بمطابقة التخييلات السردية للمرجعيات التاريخية، بل يكتفي بهضم المادة التاريخية التي يرغب أن يكتب فيها، ثم يفسح المجال أمام التخييل، لينشئ عالمًا متخيلًا .

وعند النظر في التاريخ وجد الروائيون أن الأندلس قد شكّلت رافدًا باذخًا للعطاء الحضاري والإنساني والعالمي؛ جراء التعايش الذي كانت ترفل فيه الأندلس إبان دولة الإسلام، فكلٌّ قد وجد مشربه فيها، ففيها نماذج لمن آثر الانصراف إلى الدنيا والصراع على الجاه والسلطان، في مقابل نماذج آثرت الزهد والتصوف والتقشف، وحكايات أصحاب العزة والتمكين في مقابل من كان الذل والانكسار نهاية لهم .

وبذلك عاش الروائيون في رواياتهم التي وظفت الأندلس حالة من (النستولوجيا) أو الحنين للماضي، وإلى التاريخ العريق، والزمن البديع. ولكنه حنين يمكن أن نطلق عليها (الحنين الارتدادي). فسابقًا انبثق الحنين من الأندلس إلى الشرق، كحنين الابن المغترب المهاجر إلى وطنه. واليوم يرتد الحنين من بلاد المشرق ليعود للأندلس، كحنين الحي للميت، الذي يستحال عودته.

وتباين الروائيون في توظيفهم لتاريخ الأندلس، فكل استثمر تاريخ الأندلس بطريقته الخاصة، التي تعبر عن الفضاء الذي يطمح أن يشيد فيه معماره الروائي، فمن هذه الفضاءات التي استعان الروائي بتاريخ الأندلس ليبنيها هو الفضاء السياسي، وفي هذا الفضاء اختار الكاتب أن يكون الجو السياسي هو السائد على روايته، فجعل أحداث الرواية وشخصياتها تدور في قصور الخلفاء وساحات الحكم. ومن هذه الروايات: رواية (ربيع قرطبة) لحسن أوريد، والتي تدور حول مذكرات شخصية للخليفة الـحَكَم بن عبد الرحمن الناصر، الملقب بالمستنصر بالله.

ومنهم من وظّف الفضاء الصوفي، فأخذنا مُوظِفو هذا الفضاء إلى عالم الصوفية وكراماتهم وأسرارهم، ومن هذه الروايات: رواية (ابن الخطيب في روضة طه) لعبد الإله بن عرفة، وتحكي الرواية سيرة الشاعر والكاتب والمؤرخ والفيلسوف والطبيب لسان الدين بن الخطيب.

ومنهم من وظّف الفضاء الثوري ويندرج تحت هذا الفضاء الروايات التي تدور في فضاء المقاومة والثورة، وخصوصا الثورة ضد القشتاليين الذين هاجموا غرناطة. ومن هذه الروايات: رواية (البُشرات النبضة الأندلسية الأخيرة) لإبراهيم أحمد عيسى. وتتناول الرواية قصة ثورة غرناطة الكبرى، والتي كانت أعظم ثورات أهل الأندلس على الجيش القشتالي، والتي انطلقت من جبال البُشرات.

 ومنهم من اتّخذ من الفضاء الاجتماعي منطلقًا له، وتدور روايات هذا الفضاء حول المجتمع الأندلسي، وما فيه من طبقات مختلفة، وعاداتهم وثقافاتهم. ومن هذه الروايات: رواية (زينة الدنيا) لحسن أوريد، حيث تصور الرواية المجتمع الأندلسي بمختلف انتماءاته الدينية والعرقية، فهناك المسلمون والمسيحيون واليهود والبربر والمولدون وغيرهم... وجميع هذه الشخصيات شكلت المجتمع الأندلسي الفريد. حينما كانت الأندلس مرتعًا للتعايش بين مختلف العرقيات والأديان والمذاهب الفكرية، والانتماءات السياسية، وتقبل الآخر واحترامه.

ومنهم من جعل الفضاء الرمزي فضاءً لبثّ خيالاته، وتحمل روايات هذا الفضاء رموزًا تحيل على مدلولاتٍ عميقة، ومعانٍ مقصودة، قد يعجز اللسان عن الإفصاح عنها. ومن هذه الروايات: رواية (ظلال غرناطة) لمنال القاضي. وهي رواية ليست عن أشخاص، بل هي عن ظلال الأشخاص. وبالتحديد ظلال الموريسكيين في غرناطة. فظلالهم تتجاوز حدود الزمان والمكان، فتستطيع السفر والتنقل والاختباء، والعيش وفق إرادتها، لا إرادة أصحابها.

وعند النظر في الطريقة التي توصل بها الروائيون للتاريخ، نجد أنهم سلكوا طريقين، أولاهما: أن يكتب الكاتب روايته في الماضي مباشرةً مثل رواية (هذا الأندلسي) لابن سالم حميش، ففي هذه الرواية نعيش مباشرة في الماضي، عن طريق القصة التي يرويها لنا راوٍ داخلي، وهو بطلها ابن سبعين.وأخراهما أن يكتب الكاتب روايته في الحاضر ثم يعود للماضي، باستخدام وسائل مختلفة. منها توظيف المخطوطات القديمة نحو ما حدث في رواية (زبد البحر) لعمر حسين سراج، في هذه الرواية يستغل الكاتب تطابق اسم عائلته مع اسم عائلة بطلها (أنس آل سراج) ويروي لنا قصة عثوره على مخطوطة قديمة ومهلهلة، وعنوان المخطوطة (فرسان آل سراج) فاستهواه تطابق الاسم مع مسمى عائلته، واستولى عليه هاجس وهو أن يكون هؤلاء الفرسان هم جدوده الأولون. فقرر الإبحار إلى أرض الأجداد لعله يهتدي إلى آخر فارس من سلالة آل سراج، فكانت بلاد الأندلس ضالته. وتتوالى الأحداث في الرواية ويعود أنس من رحلته الطويلة التي قضاها بين المغرب وإسبانيا إلى جدّة، ليكتشف أنهُ هو آخر فرسان آل سراج.

 ومن وسائل العودة للماضي أيضًا أن يعمد الروائي إلى توظيف صدع في الزمن يسمح للشخصيات بالانتقال بين الماضي والحاضر: كما في رواية (ولا غالب) لعبد الوهاب الحمادي، وتحكي الرواية قصة ثلاثة مسافرين من الكويت: طبيب، وداعية، وإعلامي. يلتقون في إسبانيا بدليلهم السياحي الفلسطيني. ثم تدخل الرواية في الفنتازيا التاريخية حينما تصور انفتاح صدع في الزمن يسمح لهؤلاء الأربعة بالعبور خلاله، ليجدوا أنفسهم يعيشون لحظة سقوط غرناطة، وانتظار أبي عبدالله الصغير لهم، لينقذوه من حصار فيرناندو وإيزابيلا .

ومن هذه الوسائل أيضًا توظيف الأحلام والمنامات: نحو رواية (الأميرة الأندلسية) لوائل هنيدي، حيث يدخل القارئ للماضي عن طريق أحلام الشخصية الرئيسة (نادين) التي ترى نفسها أثناء نومها أنها الأميرة الأندلسية عائشة، وتعيش في غرناطة، وتعاصر هجوم القشتاليين عليها.

ويعد سرد إحدى شخصيات الرواية للتاريخ، من الوسائل التي استعان بها الروائيون للعودة للماضي، وفي هذه الوسيلة يختار الكاتب شخصيةً ملمةً بالتاريخ الأندلسي، لترويه للقراء. وقد يعود إلمام الشخصية بالتاريخ لعدة أسباب، منها: كبر سنها، نحو ما جاء في رواية (فجر إيبيرية) لمحمود ماهر، حيث بدأت الرواية في الزمن الحاضر. واعتمد الكاتب على الراوي الداخلي وهو الجد، ثم انتقل للماضي عن طريق الحكايات التي كان يـحكيها الجد لحفيده (عمر) وهما في رحلة سفرهما الجوية لجبل طارق، فالقراء لم يبرحوا الزمن الحاضر، ولكنهم عاشوا الماضي عن طريق قصص الجد وحكاياته.  

ومما سبق يتضح أن الروائيين المعاصرين تعاملوا مع تاريخ الأندلس، وفق مفهوم (التخييل التاريخي)، الذي نزع عن التاريخ قداسته وصرامته، وأخضعه للمراجعة والمعاينة، كما يسعى لسد فجوات التاريخ، والبحث في أسراره، كل ذلك مع المحافظة على روح التاريخ وملامحه العامة، وهذا ما يجعل تلك الروايات أكثر إمتاعًا، وأقرب للمتلقي.

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA