عائلة جديدة، الذهب الأخضر

 

منذ عقود طويلة والذهب الأسود (النفط) يستحوذ على القسط الأكبر من توليد الطاقة عالـمياً، وظل متربعاً ومازال يتربع على عرشها، لكن مع ذِكر مَخاطره وتأثيره على البيئةِ ودوره في خلق الصراعات الدولية، حيث أصبح الـمحرك لتوليد الحرب والسلام معاً، ومع تقلبات أسواق الطاقة الـمصاحبة للتقلبات الجيوسياسية، بالإضافة إلى التوجه العالـمي للحدِّ من انبعاث الغازات الدفيئة والكربون، توجهت الأنظار إلى بدائل الطاقة النظيفة أو الطاقة المتجددة من أشعة الشمس، والرياح، ومصبات الأنهار، والسدود، والحواجز المائية، وحركات المدِّ والجزر... وغيرها. إلا أنه في الآونة الأخيرة أصبح الحديث عن عائلة جديدة انضمت لأسرة الطاقة حديثاً، وتسمى الهيدروجين الأخضر (الذهب الأخضر)، الذي صار الـموضوع الأبرز على الساحة العالمية، وأثيرت التساؤلات عن ماهيته، وكيف ينتج؟ وماهي مميزاته؟ وهل له سلبيات؟ وهل سيحتل المركز الأول في إنتاج الطاقة؟ وهل سيكون البديل والخيار الآمن والمتاح في المستقبل القريب؟...  

يُعتبر عنصر الهيدروجين (H) الأكثر وفرة على كوكب الأرض، ولكن بصورة غير نقية وغير فعالة، ويتطلب طاقة أخرى لفصله وجمعه وتخزينه، وتعد هذه الطريقة من الطرق الجديدة التي تقوم بفصله من الماء الذي يتكون بدوره من: ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجينH2O، عبر استخدام مصادر الطاقة الـمُتجددة، ويسمى في هذه الحالة (الهيدروجين الأخضر) وهو المنشود عالمياً. ومن طرق إنتاج الهيدروجين الأكثر شيوعاً استخدام الحرارة والتفاعلات الكيميائية لإنتاج الهيدروجين وإطلاقه من المواد العضوية والنفط والغاز الطبيعي الذي يُعدّ أهم مصدر له حالياً، ويسمى في هذه الحالة (الهيدروجين الأزرق)،  والطرق الأخيرة من المظاهر الملوثة للبيئة والمسؤولة عن انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون CO2. ويعتبر الهيدروجين نوعًا من أنواع الوقود الجديد التي ظهرت مع نهاية الثمانينات، وازدهر مع بداية الألفية الثانية، ومازال يتصدر الأولويات العالمية في مجال الطاقة البديلة والنظيفة وذات الكفاءة العالية، حيث تسارعت الاهتمامات به خلال العقدين الأخيرين، وتنافست الشركات العالمية في إنتاج المحركات التي تعمل بخلايا الوقود الهيدروجيني، كالسيارات، والشاحنات، والسفن، والطائرات، وحتى المركبات والصواريخ الفضائية، إلا أن تكاليف إنتاجه حالياً مازالت مُرتفعة، ويحتاج لتقنيات كبيرة، كالضغط العالي، والتبريد الذي قد يصل إلى درجة الصفر المطلق، ومعدات خاصة للنقل والتخزين.

إلا أن الهيدروجين عُموماً يتميز بارتفاع مُحتواه من الطاقة الناتجة مقارنة بالوقود الأحفوري بثلاثة أضعاف، مما يجعله أكثر كفاءة حتى عند مقارنته بمصادر الطاقة الأخرى، كالطاقة المتجددة التي لا يمكن استخدامها في الصناعات الثقيلة، كما يتميز بعدم انبعاث غازات منه أثناء احتراقه، فعند احتراق الهيدروجين بوجود الأكسجين داخل خلية الطاقة فإن إنتاج الكربون يكون صفرًا تقريباً. والهيدروجين قابل للتخزين، وله عدة استخدامات في إنتاج الكهرباء والحرارة للتدفئة، وفي الطبخ المنزلي، وكذلك يُستخدم وقودًا للمحركات والتنقل، كما يمكن خلطه بالغاز المنزلي بنسب قد تصل إلى الخُمس باستخدام  الأسطوانات التقليدية نفسها.

ومع ذلك فإن له بعض العيوب التي مازالت تؤرق المشاريع الاستثمارية الحالية والقادمة، وتجعل المخاطرة فيه كبيرة ،  وتتمثل هذه العيوب في تكلفته العالية جداً، وحاجته لمعدات وأدوات خاصة مُختلفة عن معدات الغازات الأخرى، ويحتاج إلى طاقة كهربائية ذات جُهد عالٍ لفصله، إلا أن وجود بدائل الطاقة الكهربائية المتجددة والنظيفة قد تساهم في الحدِّ من التكاليف العالية. كما أن لغاز الهيدروجين مخاطر على السلامة العامة، لأنه غاز مُتقلب قابل للاشتعال، ويحتاج إلى إجراءات أمن وسلامة عالية. إلا أنه في السنوات المقبلة ربما تتغير تلك النظرة، حيث إن هناك دراسات علمية تتوقع تخفيض تكاليف إنتاجه، وسهولة معالجته وتخزينه ونقله.

ومن الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية تعدُّ ضمن النُخبة السباقة في إنتاجه، كما تعتبر الرابعة عالمياً في تصديره، وقد تكون الأولى في السنوات القادمة طبقاً لرؤية 2030. وهنا سنذكر أكثر دول العالم إنتاجاً له في عام 2022م طبقاً لـموقع بلومبيرغ، وهـي: ألمانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وفرنسا، وهولندا، وأوكرانيا، وبريطانيا، وأمريكا، وكندا، والصين، والدنمارك، والسويد، وأستراليا، والسعودية، ثم الهند على التوالي. ويبلغ الإنتاج العالـمي من الهيدروجين 120 طنًا في السنة، طبقاً لبيانات 2021م، وتقدر مُساهمة الهيدروجين في استهلاك الطاقة العالمي بنسبة قُدرت بـ 4% عام 2019م، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة بحلول 2040م إلى أكثر من 20%، في حين أن دراسات وإحصائيات تتوقع أنها قد تصل إلى أعلى من 50% ما بعد 2050م.

وعموماً يرى نُشطاء البيئة والشركات والمستثمرون وكثير من الحكومات حول العالم أن المستقبل سيكون للهيدروجين الأخضر بلا منازع، في سبيل التقليل من الاعتماد على الوقود الأحفوري، ولمواجهة السنوات القادمة الموعودة بمزيد من ارتفاع الحرارة العالـمي، وإبطاء معدل الاحتباس الحراري، وتخفيف حدة التغير المناخي، ليكون الهيدروجين هو الخيار العملي الآمن على البيئة والمناخ، على أمل أن تنخفض تكاليف إنتاجه وتخزينه ونقله مستقبلاً.

فيصل بن أحمد الشميري

كلية علوم الأغذية والزراعة

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA