هل يمكننا سن معايير معينة لقياس السعادة ؟

ثقافية رسالة الجامعة تسأل :

 

 

رسالة الجامعة – أريج السويلم

 

يجيب الدكتور فالح العجمي أستاذ اللسانيات بقسم اللغة العربية بالجامعة، قائلًا :

 

قد يتساءل أناس عن إمكان سن معايير معينة لقياس السعادة. وهنا لا بد لنا من التفريق من جهة بين السعادة الجمعية (الخاصة بحياة المجتمعات بصورة عامة)، وهي ما تسعى إلى تحقيقها الحكومات المخلصة أو الإدارات الإقليمية المعنية بجودة الحياة وتسهيل أمور المنضوين تحت اختصاصها؛ ومن جهة أخرى السعادة الفردية، التي أتحدث عنها في هذه المقالة، وهي أمر خاص بالفرد، يستطيع أن يسعى إليه، وببعض القدرات والطرائق يستطيع أيضاً الحصول عليه. لكننا نحتاج قبل تبيين تلك المعايير إلى إيضاح مفهوم السعادة في الإطار العلمي، وحسب تقنين أصحاب الاختصاص (وهم متنوعون بين الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا وعلم الأعراق، وتتقاطع أيضاً مع الاقتصاد والسياسة ودراسات الخطاب).

 

وربما نكتفي بتعريفات أحد تلك الحقول، وهو علم النفس الإيجابي، الذي اتفق المختصون فيه على كون السعادة مجموعة من المؤشرات السلوكية، التي تدل على توفر حالة من الرضا العام لدى الفرد، وسعيه المستمر لتحقيق أهدافه الشخصية في إطار الاحتفاظ بالعلاقات الاجتماعية الإيجابية مع الآخرين. وقد تأتى لكثير منهم الإسهام في التقدم بدراسات هذا الحقل (وقد تحوّل في بعض المراكز إلى مصطلح علمي خاص هو «علم السعادة») إلى الأمام من خلال التطور في دراسات الدماغ، وإيجاد خارطة المشاعر فيه.

 

ومما تؤكده التجارب العلمية ظاهرة مطابقة وصف المرء لنفسه مع وضعه الفعلي، فيما يخص السعادة؛ حيث أصبحت قضية صدق الأشخاص عن أنفسهم في هذا الشأن من الأمور المسلّم بها. فإذا أردت أن تقيس مقدار سعادة الناس، فاسألهم عن شعورهم ببساطة. فكثير من الدراسات أثبتت أن الناس الذين يقولون عن أنفسهم بأنهم سعداء، يكونون أقرب إلى ذلك من خلال وصف أصدقائهم لهم، وأنهم أقرب إلى الاستجابة لطلبات المساعدة من الآخرين، وأقل غياباً عن مقر العمل، وأقل دخولاً في حالات الجدل السفسطائي، وأقل الناس بحثاً عن استشارة نفسية. فهم يعيشون حياة أطول، ويحصلون على تقويم أعلى في مستوى الصحة العقلية. فأغلب الأشخاص الذين يقولون للباحثين بأنهم سعداء، لا ينقلون الواقع بصدق فحسب؛ بل هم محقّون في ذلك.

 

وتردّد أدبيات علم النفس الإيجابي مقولة أصبحت شعاراً لهذا الحقل العلمي، أن السعادة «خيار شخصي»، مما يجعل الراغبين فيها مضطرين إلى التوازن بين المسعى نحو تحقيقها، والانخراط في السلوك الاستهلاكي، وما يتبعه من محاولات اعتبار الذات هي مركز الكون في الحياة المعاصرة، مما يجعل أغلب المنجذبين إلى تلك النماذج يتصفون بالأنانية الشديدة وعدم النظر إلى جوهر الأشياء.

 

وإذا تحققت السعادة لدى الفرد، فإنه يكون لها آثار قوية على سلوكه، منها: التفكير الإيجابي؛ حيث يفكر المرء بطرق مختلفة وأكثر إيجابية عندما يكون سعيداً، مقارنة بحالات أخرى عند الحزن والكآبة. وكذلك يكون السعداء أكثر ثقة بالنفس وأكثر تقديراً لما يصدر عنهم من أعمال، وأقوى في الكفاءة الاجتماعية، ولديهم استعداد لحل مشكلاتهم بطرق مبتكرة. وقد أصبحت مصطلحات حديثة مثل «جودة الحياة» أو ما يقابله في الإنجليزية «The Good Life» هي المقابل للمصطلح الكلاسيكي لدى اليونان (Eudaemonia) ويجمعهما المصطلح الشامل «السعادة» الذي يتعلق فقط بتصنيف وتسمية ما نحن بصدد فعله.

 

السعادة وأنماط الحياة المختلفة

 

وفقاً لرائد علم النفس الإيجابي مارتن سيليجمن، فإن السعادة تظهر في ثلاثة أنماط مختلفة من الحياة: الأول هو أن يعيش المرء نمطاً منفتحاً على البهجة الممكنة (حياة المرح)، التي تحتوي على التمتع بكثير من المشاعر الإيجابية قدر الإمكان، وتعلّم المهارات التي تضاعف تلك المُتَع. ويمثله النموذج الأمريكي في هوليوود؛ حيث نقضت الأفكار الكلاسيكية السائدة منذ أرسطو، ومروراً بسينيكا وفيتجنشتاين، التي كانت تعد ممارسة المرح شيئاً من الابتذال.

 

النمط الثاني هو الحياة الجيدة (eudaemonia)، بأن يمارس المرء درجة عالية من الانخراط في النشاطات المؤدية إلى الرضا (حياة الالتزام)؛ وهو ما يعنيه كل من أرسطو وتوماس جيفرسون بمتابعة السعادة. وهما لا يعنيان الابتسام والقهقهة بأصوات عالية؛ فأرسطو يتحدث عن سرور التأمل، والانتشاء بالمحادثات الجيدة. فلم يكن أرسطو يذكر شعور العبوس ولا إثارة العواطف أو النشوة الجنسية؛ بل يناقش حالات الحوار المجدية والتأمل المفيد. فعندما يكون المرء في حالات إيجابية من الحياة الجيدة، فإن الزمن يتوقف، حيث يشعر المرء وكأنه في داره، ويجري إيقاف الوعي بالذات (الشعور باتحاد مع الموسيقى). فالحياة الجيدة تحتوي على الجذور التي تقود إلى التدفق (flow). فهي تقوم أولاً على معرفة ما هي مصادر القوة لدى المرء، لكي يقوم بإعادة صناعة حياته مستخدماً تلك العناصر أكثر من ذي قبل، وكذلك إعادة تصميم العمل والعلاقة الرومانسية والصداقة ووقت الفراغ والأبوّة أو الأمومة، مع إدراج الأشياء التي يكون المرء فيها متفوقاً ضمن الأولويات. وما يحصل عليه الإنسان من جراء ذلك ليس استعداداً فطرياً للضحك كثيراً، بل إن ما يتوفر له هو التدفق (flow)، وكلما أدرج أعلى نقاط القوة لديه، كلما حصل على المزيد من ذلك الشعور في حياته.

 

النمط الثالث يكون من صنع الإنسان، وهو متابعة معنى الحياة المتمثل في التعلق بأشياء أكبر من المرء نفسه (الحياة المجدية)؛ فالنفس ليست هي الجانب الجيد فيما يخص المعنى؛ فكلما تعلق المرء بمصداقية بأشياء أسمى؛ كلما حصل على مزيد من معنى الحياة. ويتابع بعض باحثي علم النفس الإيجابي تقصي جوانب التوازن في الحياة، التي تسهم بصورة جوهرية في السعادة الشخصية، بسبب محدودية عامل الرضا، الذي يمكن للناس أن يستقوه من مجال حياتهم المفردة. لذلك يذهب باحثو هذا الاتجاه إلى أن مستوى السعادة ليس متوقفاً على عوامل تنتجها الجينات الموروثة والحظ والأوهام أو تجاهل العوامل السلبية المثبطة فحسب؛ بل إنها يمكن أن تُتَعلّم وتزدهر بالتعود على آلياتها المكتسبة. وبالنسبة لعلم النفس الإيجابي فإن السعادة هي الشعور الذي ينشأ عندما نفعل شيئاً تكون منطلقاته من مصادر قوتنا وفضائلنا.

 

وفي كل هذه الأنماط ونسبية تأقلم الأفراد مع متطلباتها تقع تحليلات وتعريفات السعادة الساعية إلى التفريق بينها وبين الشعور بالفرح وغيره من الأحاسيس العابرة؛ ففي حين أن تلك المشاعر إشباعات جزئية، تكون السعادة معبرة عن طابع كلي ينبع من الذات، ويشع في البيئة المحيطة بالأفراد المتصفين بها. وتنحو أغلب الفلسفات في هذا الشأن إلى ربط السعادة بإيجاد معنى لحياتنا، فهذا المعنى الذي يتوصل إليه الإنسان سيصبغ كل الوجود من حولنا بالسعادة؛ غير أن هذا المعنى ليس شيئاً محدداً بعينه ينطبق على الجميع، إذ إن معنى الحياة يختلف من شخص إلى آخر.

 

الخلاصة أن السعادة تزدهر مع التعرض للمشاعر الإيجابية، مثل: الحب والحرية والتضحية (بإسعاد الآخرين) وبالتفاؤل والأمل وباتساع الأفق واكتساب المعرفة؛ وفي المقابل تنكمش مسبباتها بالتعرض للمشاعر السلبية، مثل: الخوف والقلق والغضب والعزلة وحالات الإجهاد والتشاؤم والاكتئاب. لكن الثابت في الأمر أن لا علاقة لازدهارها بوفرة المال الكثير، ولا بالنجاح في العمل؛ بل إن العامل الأكثر أهمية (إضافة إلى العامل الجيني والظروف المحيطة بالفرد) هو نسبة تقارب 40% هي القرارات الفردية التي يستطيع كل فرد أن يحصل عليها كاملة متى أراد، وكانت لديه العزيمة لتحقيق سعادته الذاتية .. فليأكل الشوكولاته أو الآيسكريم، لكن عليه أن يتزود بالعوامل الأولى ويتحرر من الثانية قدر المستطاع!

 

 

 

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA