رسالة الجامعة- أريج السويلم
تجيب الدكتورة أسماء الجوير الأستاذ المساعد في تخصص النحو والصرف من قسم اللغة العربية وآدابها والمدربة في التمثيل المسرحي قائلة :
«العمل بالمسرح هو الشكل الوحيد للابتعاد عن الملل»، يرى كثير من الناس أن المسرح هواية ومساحة لقضاء وقت الفراغ، لكني _مثل كثير من عشاق المسرح _ أجد فيه صورةً أخرى للحياة، أجد فيه كوكبًا آخر تُرسم عليه حياة أخرى تكون مرآة لحياتنا، أو إعادة صناعة لحياتنا، أو مواجهة لمشكلات حياتنا، أو قد تكون ضحكةً مدوّية في وجه حياتنا.
المسرح ليس قصة الرواية، وليس قصة السينما، في المسرح أنت (كونك القارئ، الكاتب، المشاهد، الممثل) تعيش في القصة مذ وُلدتْ، أمّا في الرواية أو السينما تحتاج إلى شيء من المضي قدمًا لتعيشها، لذا أقول إن في المسرح حياة أخرى، وأن (الممثل/ الكاتب) في المسرحية يضيف إلى عمره أعوامًا، وإلى حياته حيوات الشخصيات في المسرحية.
إن المسرح _ من هنا_ ليس محض اختلاق، إنما هو توسيع المتخيّل الإنساني المحتمل، وإخراجه من حدود الكلم الـمُصاغ إلى فضاءات الأداء والحركة بصوره الحواريّة الجادّة أو الساخرة، المغنّاة الاستعراضيّة، أو المرتجلة، أو الذاتية الانفرادية (المونولوج)، هو مساحات الخَلق التي يمدّها الجمهور بتفاعله قبل المسرحية وأثناءها وبعدها.
أما وقد سُئلت عن إمكان كون المسرح أداةً تعليميةً إلى جانب فضاءاته الفنيّة فيمكنني أن أطرح تجربتي في حدثين جليلَي الأثر:
قبل سنوات بين عام 1420_ 1423هـ حين كنتُ طالبة البكالوريوس في قسم اللغة العربية بكلية التربية_ الأقسام الأدبيّة بالرياض (التي ضُمّت إلى جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن الآن)، كان مسرح الكلية محضن الفنون والمواهب، وأتذكر جيدًا أداء طالبات السنة النهائية مسرحية (المسألة الزنبوريّة)، وهي _لمن لا يعرفها_ مناظرة نحويّة بين شيخ النحويّين البصريّين سيبويهِ وشيخ القرّاء وعلوم اللغة الكسائيّ الكوفيّ في مجلس الوزير البرمكيّ، وملخصها في الحوار الآتي:
_ الكسائي: «كيف تقول: كنتُ أظن أن العقربَ أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أم فإذا هو إياها؟»
_ سيبويه: «فإذا هو هيَ، ولا يجوز النصب».
_ الكسائي: «لقد أخطأت، بل الصحيح النصب فنقول: فإذا هو إياها».
وتروي القصة تدخّل الوزير بأن طلب من الأعراب تأييد الكسائيّ تطويًلا للمجلس واستمتاعًا بتبادل الحجج.
كنت حينئذٍ في السنة الأولى أو الثانية، وأسمع عن (المسألة الزنبورّية) والحجج النحويّة والاحتكام إلى الأعراب وتدخّل ديوان الدولة في مجالس العلم لأول مرة، وما سمعتُ وحسب، بل رأيت، وعشتُ وصفّقتُ وفهمت المسألة، وعلاوة على كل ذلك أستعيد ذكرى تلك المسرحية بعد سنوات طويلة وكأنني بعدُ تلميذةٌ مندهشة في مدرجات ذلك المسرح.
إنّ مما يُدعى إليه في الحديث عن الجودة والتميّز في التعليم نقل المعرفة العلميّة من كونها نصًّا مقروءًا محفوظًا إلى كونها تجربة متقنة، وإنَّ ما يبزّ ذلك ويربو عليه جعلها لوحةً أدائيّة يشارك الطالب في صياغتها وسبكها وإخراجها وأدائها والدعوة إليها ومشاهدتها تمتزج بوعيه ولا وعيه، وتمتزج بهويته وميوله، وتنتقل من كونها تجربة إجباريّة مؤلمة _وإن كان ذلك على نحو ما_ إلى كونها تجربة مثيرة ممتعة لا تُنسى، ولا يبعُدُ أن يُتصوّر أنه إذا اشتمل مقرر دراسيّ لشعبةٍ ما على عشرة دروس واختير منها درس ليُقدَّم في لوحةٍ مسرحيّة كانت نسبة تفوّق الطالب في دروس المقرر العُشر، ويكون ذلك من نصيب الدرس المسرحيّ ذي التجارب المتعددة الأوجه، وكما قال الشاعر:
فقلتُ ادعِي وأدعو إنَّ أندى
لصوتٍ أن يُناديَ داعيانِ
أمّا الحدثُ الثاني فإني أدرّب بنياتنا الممثلات في مسرحيّات فريقنا (فريق شارة الفنيّ) منذ سنوات، وقد سننتُ نهجًا ألا نكتب ولا ينقل مسرحنا إلا الفصيح شعرًا ونثرًا، وفي سبيل ذلك أشقّ على الممثلات بالتدرب على نطق الفصيح دون لحن أو اعوجاج مخارج بأقصى ما يمكننا، وقد حمّلتهن لأجل ذلك أعباء الرسالة والأهداف التي من ضمنها أن نكون مسرحًا ناقلًا للغة بأمتع صورها، ومن عظيم فضل الله أنهنّ مارسن ذلك حتى اعتدن عليه وجُوِّدت ألسنتهنّ إلى حدٍّ كبير.
ثم إنّ مسرحيات الفريق لا تقوم على الفنّ وحده، بل تنطلق من قيمة عليا في كل مسرحيّة تنضوي تحتها قيم ترفدها وتدعمها، فلقد كانت مسرحية (شتّى) التي عُرضت عام 1436هـ وأُعيد عرضها عام 1439هـ تصوّر قصة الغجر الرحّل الذين يفتقدون الانتماء إلى الوطن في مفارقة تُظهر قيمة الوطن الذي يضمنا ويدعمنا وننتمي إليه، والعائلة والبيت اللذين نحميهما ويحمياننا، ونجد في هذا المثلث (الوطن، العائلة، البيت) الأمن الذي يكون التربة الخصبة للفنّ والعلم، فتُردّد بطلات المسرحيّة ويردّد الجمهور معهن هذه الأبيات مُغنّاةً في استعراضٍ مُعبّر:
البيتُ نبضُ أمنْ
للدفءِ كُلُّ لَوْنْ
البيتُ ليسَ حـــــــــا
ئِطًا لكي يُكِنّْ
البيتُ عائِلَة
بالدفءِ عاملَةْ
إذا فقَدْتَها
ستفقدُ الوطَنْ
البيتُ بالشعورْ
بيقظةِ الضميرْ
أوطانُنَا بيوت
تضُمُّنا كحِضنْ
منْ يفقدِ الوطنْ
يفقدُ كلَّ فَنّْ
سافرْ ودُرْ تَجِدْ
موطِنَكَ الأحنّْ
لم نمارس تعليمًا مباشرًا في مسرحيات الفريق، لكنّ تلقين اللغة وتثقيف نطقها على وجه مشرّف (لا ساخر) وتعميق المبادئ العليا للمجتمع هدفٌ تعليميٌّ وجدانيٌّ قوميٌّ وطنيٌّ أزعم أننا حققناه بفضل الله، وأرجو أن نظل عليه.
إنّ عودةَ المسرحِ الجامعيّ عودةٌ خجلى، حاولتُ الانخراط فيها ضمن جهود وحدة المسرح في جامعتنا العريقة، بعقد دورات التدريب، وتحكيم المسابقات، لكنه ما زال في حاجة إلى ربطه بمورده ومصدره، فهو ينبثق من الجامعة ويصبُّ فيها، وينبغي له ألّا يرتبط بها ارتباط تحجيم وتقييد، بل ارتباط تقويم وتأييد.
دمتم ودام المسرح بخير.
إضافة تعليق جديد