كيف تعني الكلمات ما تعنيه؟ هل للكلمة كيان خاص بها ومعنى ثابت لا تحيد عنه؟ وهل الكلمة تحمل معنىً خاصاً مستقلاً يتبادر إلى أذهاننا بمجرد سماع تلك الكلمة، فنفهم المتحدث وغايته، ونبتعد بهذا المعنى الثابت عن سوء الفهم؟
يقول ريتشاردز إن «خرافة المعنى الخاص» أي الاعتقاد بأن للكلمة المفردة معنى ثابتاً مستقراً بصرف النظر عن السياق أو الاستعمال تماماً كما أن لكل إنسان اسمه الخاص الملازم له، هو ما يقوم عليه سوء الفهم.
لقد انتقد ريتشاردز هذا الاعتقاد، وذهب إلى أنه ليس للكلمة المفردة معنى في ذاتها، بل تستمد معناها من كلمات أخرى حاضرة في السياق أو غائبة عنه، يقول: «إن الكلمة المفردة التي تأتي معزولة عن بقية الكلمات المنطوقة أو المفترضة، ليس لها معنى في ذاتها، شأنها شأن أية رقعة ملونة في لوحة لا تكتسب حجماً أو مساحة ما لم توضع في إطار معين». هو الإطار النصي الذي يلعب فيه السياق دوراً مهماً في تشكيل الدلالة، وهو أيضاً ما قالت به اللسانيات الحديثة حول انتظام الكلمات في نوعين من العلاقات هما: علاقات التتابعية «paradigmatic»، أي ارتباط الكلمات المتجاورة في نصٍ معين، والعلاقات التبادلية «syntagmatic»، أي علاقات الغياب التي تتبادل بها الكلمات مع بقية الكلمات في الموقع الواحد. ولا بد للبلاغة العربية من أن تكون حاضرة في كل نظرية أو اكتشاف، حيث شهدت البذرة الأولى على يد عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم حين قال: «إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ...إنك ترى الكلمة تروقك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر». إن معنى الكلمة يعتمد على معاني الكلمات الأخرى السابقة لها أو اللاحقة عليها في الجملة. ولكن ماذا يحدث حين نحاول أن نعرف من جملة ما، ما تعنيه كل كلمة فيها على انفراد؟
إن الجملة هي وحدة الخطاب ونحن لا نفرزها في نقاشنا اليومي ولا نصنفها إلى كلمات؛ بل نتعامل معها بوصفها معنى قائما بمعاني مفرداتها. هذا عندما تكون الكلمات وحدات صوتية منطوقة، بخلاف لو كانت مكتوبة، حيث إن الكتابة تعطي الكلمات استقلالاً أكثر من استقلالها في النطق. إلا أن عددًا كبيرًا من الكلمات أثبتت استقلالها في الصياغات الصارمة لبعض العلوم المستقرة والراسخة في الكلام المتفق عليه، هذه الكلمات تعني شيئاً واحداً أياً كانت الكلمات الموضوعة إلى جوارها، وإذا انتقلت الكلمة فهي لا تنتقل إلا إلى عدد قليل من المواضع الثابتة التي يمكن تسجيلها وحصرها، ولنا أن نمثل لها بمصطلحات الرياضيات كالمثلث والمربع والدائرة.
إننا نتغير وجُملنا تتطور، وتطورها بالتأكيد مرتبط بمفرداتها وكل مفردة تحمل معنى مغايراً لمعناها من جملة لأخرى، فلا ينتج عن المفردة معنى واحد، بل حركة من المعاني ترتبط بالجمل والسياقات التي ترد فيها وعلاقاتها بما قبلها وما بعدها.
أ. آمنة بنت علي شراحيلي
قسم اللغة العربية وآدابها
إضافة تعليق جديد