التغير المَناخي واقعٌ ومَخاطر

   

 

يستحوذ مُصطلح التغير المُناخي في الآونة الأخيرة -بشكل مُطرد- على اهتمام محلي ودولي كبير، وأصبح يؤرق الجميع بلا استثناء، وخاصة الـمُهتمين بالبيئة والمناخ والزراعة والغذاء والماء، فلم يعد التغير مقصورًا على مفهومه المُتعارف عليه في التحول البيئي من حالة إلى حالة أخرى بشكل مُفاجئ مما يترتب عليه مخاطر على مدى زمني يصعب التكهن به، المتمثّل في ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض مُعدل هطول الأمطار، والاحتباس الحراري، والجفاف، والتصحر، والفيضانات...إلخ؛ بل أصبح يشكل خطراً على الأمن الغذائي والمائي العالمي، وبالتالي على حياة البشرية والكائنات الحيّة بوجه العُموم. 

تطورت البشرية بتطور وسائل الصناعة والنقل والإنتاج والطاقة، فشكلت عبئاً ثقيلاً على النظم البيئية، في زيادة إنتاج الغازات الدفيئة، وقطع الأشجار وتلاشي الغابات، وتناقص الرقعة الزراعية والمساحات الخضراء، فتغير النظام الإيكولوجي عبر عقود من الجهل تارة ومن اللامبالاة تارة أخرى، فأصبح تأثيره يزداد يوماً بعد يوم بشكل أسرع، وعندما اقترب الخطر سريعاً من الغذاء والماء، أصبح التغير المناخي أرقًا يُهدد الجميع بعد جائحة كورونا.

إن الكون برمته يمشي على إيقاع مُنتظم مُترتب مُتجانس مُتناسق بشكل لا يتخيله العقل البشري؛ لكن عندما ينحرف لا يستطيع أحد إيقافه والحدّ من انحرافه؛ ويحدث ذلك بسبب السلوكيات الشاذة والمنحرفة التي طغت على عصرنا الراهن، وأهمها الإسراف والتبذير واستهلاك الكثير دون الحاجة إليه. 

فيما مضى كان لحبة القمح أو الشعير أو الذرة أو الأرز قيمتها، ولقطرة الماء ثمنها، والشجرة كنز، والأرض عِرض، واستمر الناس على هذا المنوال في الحفاظ على البيئة، فكانت حينها مُزدهرة مُستقرة مُتنامية منتجة، لكن عندما أصبحت قاطرات القمح والذرة تُرمى في البحار؛ للحفاظ على قيمتها السِّعرية في الأسواق، وتُهدر آلاف اللترات لغسيل السيارة، وعمّ التبذير والمبالغة في استهلاك الغذاء مع تطور مظاهر الترف والتقليد، زادت احتياجات البشرية، فانحرفت البوصلة البيئية، وتغير المناخ والواقع من حولنا. 

ولن يقتصر تأثير التغير المناخي على عصرنا الحالي؛ بل سيمتد إلى الأجيال اللاحقة من بعدنا، فأي أرث سنتركه لهم؟!  حروبٌ ودمار وأسلحة دمار شامل، وجفاف، وغابات مُدمرة، وأراضٍ مُتصحرة، ومصانع لا تتقيد بالشروط البيئية، واستمرار توليد الطاقة بالطرق الـمُؤذية للبيئة.!

نتج عن كل  ذلك ارتفاع ملموس لدرجات الحرارة سنوياً، حيث زادت في السنوات الأخيرة 1.7 درجة مئوية على المتوسط السابق قبل العصر الصناعي عندما كانت الزيادة بمعدل 1.09 درجة مئوية، مضافةً للمتوسط العام لدرجة الحرارة سنويا. وهذا يشكل عبئاً على الكائنات الحية وعلى المناطق المُتجمدة، فقد لوحظ في السنوات الأخيرة ارتفاع معدل الفيضانات والعواصف في كثير من الدول بسبب ذوبان الجليد، ولوحظ في الوقت نفسه جفاف في دول أخرى، حيث ارتفعت حرارة الأنهار والبحار والمحيطات، التي تمتص حرارة الاحتباس الحراري، فأصبحت حياة الملايين مُهددة في الجزر وعلى الشواطئ والمناطق المنخفضة عموماً في العالم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فلقد أثر أيضاً على الكائنات الحية الأخرى، فأصبح يهدد كثيرًا من الأنواع، فقد ظهرت أنواع جديدة مُنافسة للبشرية في غذائها، واختفت أخرى كان لها دور في التناغم البيئي، بعضها تأثر بسبب الاحتباس الحراري، وبعضها تأثر بفقدان بيئته كالغابات والمروج، والبعض الآخر بالطقس القاسي والآفات والأمراض المستوطنة والعابرة والمُستحدثة، والبعض الآخر بسبب التغير في حموضة مياه البحار والمحيطات والمجمعات المائية، وهناك دراسة تقول «إن العالم اليوم يفقد حالياً بمعدل يفوق ألف مرة ما كان عليه في القرون الماضية من الكائنات الحية»، مما ينتج عنه نقص حاد في الغذاء، فزادت نسبة المجاعات حول العالم، والأوبئة والأمراض، وكذلك الصراعات؛ ليحدث التهجير القسري وتكدّس الناس في أماكن، وتخلو أماكن أخرى من الحياة، مما يخلف الفقر والجوع والمرض واستمرار دائرة الصراعات وتوسعها.

كما نتج عن التغير المناخي كثير من الأشياء والأحداث التي يصعب تصورها في العقود السابقة، كانتشار الأمراض البكتيرية والفطرية والفيروسية بشكل لافت، وظهور سلالات جديدة مُقاومة، وتفشي الآفات الحشرية، وظهور أنواع جديدة -لم يكن لها تأثير سابقاً- بسبب الخلل في التوازن البيئي، كظهور سوسة النخيل مثلاً، كذلك حدوث تغير في مواعيد زراعة الأصناف الزراعية. ونتيجة للتصحر والجفاف أيضاً ارتفعت نسبة الملوحة أو القلوية في الأراضي، وانخفض مُعدل هطول الأمطار وتذبذبت مواعيده، كما حدث في القارة الأوروبية مؤخراً. كما نرى كثيرًا من أخبار احتراق الغابات في مناطق كانت تُعدّ باردة، حتى على مستوى الطيور هناك هجرات مُستحدثة وتغير مُفاجئ في مسار حركتها الموسمية، وحصل كذلك -وهو الأهم- تدنٍّ في إنتاجية المحاصيل الزراعية،  تلك العوامل كلها أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على السكان حول العالم.

ولكن ما زال الأمل قائما، والمجال ما زال مفتوحًا، والتفاؤل واجب؛ لكي نتدارك الأمر، ونقلل من سرعة التغير المناخي ومعدله والآثار المُترتبة عليه، بتنفيذ السياسات العلاجية الفعلية على أرض الواقع، وإلزام الدول المُصنعة بالتخفيض الفعلي لمعدل الغازات الدفيئة المنبعثة، وسنّ القوانين في كافة دول العالم الكفيلة بالتوجه لإنتاج الطاقة النظيفة والمتجددة، وإعادة التخطيط -وفق المنظورين قريب الأجل وبعيده- لسياسة الصناعة والإنتاج والاستهلاك، والتوسع في زراعة المناطق وصيانة الغابات والمحميات الطبيعية، فهناك علاقة إيجابية بين الغطاء الأخضر والتنوع الحيوي، كذلك يجب الحفاظ على الأصول الوراثية الحيوانية والنباتية على حد سواء، وعمل بنوك وراثية لذلك، كذلك استخدام وسائل النقل الجماعية المُوفرة؛ لتقليل نسبة العوادم والازدحام، وتعزيز المعالجات الطبيعية؛ وليكون الأمر أكثر جدية وإلزاما يطلب من الجميع «دول ومنظمات وهيئات وأفراد» -وبشكل فوري أكثر من أي وقت مضى- تحقيق التنمية المُستدامة، ومواجهة التحديات البيئية بنوع من التكامل والتكافل والمنافع الـمشتركة، بعيداً عن الاستقواء والأنانية والاستحواذ على إرث البشرية، وكذلك الاستهلاك الأمثل طبقاً للاحتياجات الفعلية من الغذاء والماء، على نحو كفيل باستدامتها، فالهدر والتبذير طريق الهلاك.

كذلك تعزيز البحث العلمي العميق عن المحاصيل والأصناف الزراعية الـمقاومة للجفاف والمُتحملة للحرارةِ والملوحةِ، والتوسع في زراعتها، وفي السياق نفسه البحث عن الأصناف والحبوب غير المُستغلة في سلاسل إمداد الغذاء على مستوى الإنسان أو على مستوى الحيوان، كذلك يجب الحفاظ على التنوع الحيواني بما يضمن الاتزان البيئي، فلكل كائن على وجه هذه الأرض دورٌ حيوي قد لا نعلمه، لكن سنعرف أهميته عند اختفائه أو انقراضه. 

كما يجب تفعيل أنظمة الإنذار المبكر والرصد والـمُحاكاة للكوارث الطبيعية سواءً أكانت أعاصير أم عواصف أم فيضان أم موجة حرّ... حتى يُستعدّ لها ومواجهتها، فقد يحدُّ ذلك من الأضرارِ والمخاطر بنسبةٍ كبيرةٍ وخاصة في الأرواح.

كما يُعتبر التشجير داخل الـمــُدن الـمـُكتظة، وإيجاد الـمُسطحات الخضراء، وزراعة نواصي الشوارع ذا أهمية صحية وبيئية، فهناك دراسة علمية تقول «إن شجرة واحدة قد تعادل عمل مكيفَين يعملان لمدة يوم كامل».!

ومن المعالجات التي يجب اتباعها في مواجهة التغير المناخي  إعادة صياغة  طرق عمل البُنى التحتية وتحويرها،  واستخدام المواد المُقاومة، والطرق الهندسية الفنية وفق التقنيات الحديثة في المناطق المناسبة، وتشمل كذلك التخطيط بنوعيه قصير الأجل وطويله، ووضع قوانين البناء والارتفاع الأمثل للمباني، وكذلك الاستغلال الأمثل للمساحات، بالإضافة لنوعية المواد المستخدمة، والمساكن المزودة بمصائد الطاقة النظيفة، واستغلال مياه الأمطار الساقطة، وتعزيز الاستثمار في إنشاء المسطحات الخضراء، وإنتاج الطاقة النظيفة من الرياح والشمس وأمواج البحار ومصبات السدود وغيرها، وكذلك الاستثمار في إنتاج الغذاء واستغلال المساحات الصغيرة كالبيوت المحمية، وتعزيز الإنتاج الزراعي العضوي؛ للتقليل من المواد المصنعة -كالأسمدة والمبيدات وغيرها- المؤثرة على البيئة وعلى الصحة العامة، وتسهيل تدوير المياه المستخدمة.

كذلك تفعيل النظام السُكاني الجماعي، وإنشاء الـمُجمعات السكنية في إطار الحدِّ من تناقص مساحة الرقعة الصالحة للزراعة، وتسهيل تطبيق نظام الترشيد المائي والكهربائي، وتسهيل جمع المخلفات ومعالجتها وتدويرها.

كما أن الأمن المَائي رديف للأمن الغذائي، فالاستخدام الأمثل للمياه، وترشيد استخدامها، وإعادة تدويرها، والحصاد الأمثل لمياه الأمطار، وعمل الخزانات المائية والسدود والحواجز، واستخدام أنظمة الري والتقنيات الحديثة والدقيقة في الزراعة كفيل باستدامة وصول الماء للسكان.

وختاماً تُصنف المنطقة العربية عُموماً ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة على مستوى العالم وأكثرها حساسية  للتغيرات، ومُعدل التغير فيها يزيد بنسبة ثلاثين في المائةِ عن المعدل العالمي، وهو ما قد يزيد من حدة الصراعات، والتغيرات البيئية مُستقبلاً، ومن هذا المنطلق إن الـمُعالجة الجدّية ومواجهة التحديات ضرورة حتمية، مع ضرورة التكّيف مع المتغيرات، والاستغلال الأمثل لمواردنا في باطن الأرض وسطحها، وفي البحار وأعماقها، وسرعة تنفيذ الأحزمة الخضراء حول المدن، كما يجب تعزيز مفهوم المناخ والبيئة لدى الأفراد -أياً كان موقعهم- للإحساس بالمسؤولية المشتركة. فالمسألة حياة وبقاء، فقد نستطيع شراء الغذاء، وشراء الماء، وشراء أي شيء؛ لكن لن نستطيع شراء البيئة، فنحن فقط مسؤولون عنها وعن الحفاظ عليها والذود عنها؛ لسلامتنا، وحفاظاً على الأجيال المتعاقبة من بعدنا.

 

فيصل بن أحمد الشميري

باحث في جامعة الملك سعود

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA