إلى جنة الخلد يا أبا محمد

الحمد لله القائل (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) )

 

في يوم الاثنين الرابع عشر من شهر شعبان سنة ١٤٤٤فقد الوطن ابنا بارا وعالما مربيا فاضلا من أبنائه، تخرج على يديه المئات بل الآلاف من الطلاب والطالبات في المرحلتين الجامعية والعليا، واحتل البعض منهم مكانة مرموقة في الدولة، بينما تبوّأ بعضهم مناصب علمية وإدارية قيادية في الجامعات، ألا إنه عالم الآثار المشهور الدكتور/ عبد الرحمن بن محمد الطيب الأنصاري، وقد آلمني خبر وفاته أشد الألم وأحزنني أشد الحزن؛ لعلاقتي الأخوية والعائلية به، كيف لا وهو أخ وصديق ورفيق درب في المهنة لسنوات طويلة، وإن القلم ليعجز عن تسطير ما أكنّه له من محبة وتقدير.

 

 

أصيب الأخ عبد الرحمن في آخر حياته بمرض عضال أقعده في الفراش بضع سنين، جعل الله ما أصابه تكفيرا لسيئاته ورِفعة لدرجاته إنه سميع مجيب، وقد أشرف على العناية به زوجته المصون أم محمد، وابنته الدكتورة لبنى عضو هيئة التدريس في كلية الطب بالجامعة، وأولاده الدكتور محمد الذي يعمل في الولايات المتحدة، والدكتور عاصم عضو هيئة التدريس في كلية طب الأسنان بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، والدكتور هاني عضو هيئة التدريس بكلية الهندسة بالجامعة، والأستاذ عبد العزيز الذي يعمل قياديا في القطاع الاقتصادي، جعل الله ما قدموه في ميزان حسناتهم، ولا يستغرب منهم ذلك، فهم ولله الحمد بررة بوالديهم، فلم تقبل أم محمد ولا الأولاد إبقاءه في المستشفى، بل تولوا هم الإشراف على رعايته بنفس راضية لا حرمهم الله الأجر.

 

 

ولد الفقيد رحمه الله و ترعرع وتربى في المدينة المنورة، وأشرف والده العالم الجليل على تربيته وتعليمه، فحفظ القرآن الكريم في حياة والده، وواصل تعليمه بعد وفاة والده في مدارس المدينة المنورة، فبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية التحق بالمعهد العلمي السعودي، وبعد نجاحه بتفوق ابتعث إلى جامعة القاهرة بكلية الآداب قسم اللغة العربية، ومن ثم بدأت علاقتي بأبي محمد رحمه الله، حيث كنا نلتقي من وقت لآخر في نفس الكلية والسكن الخاص بالطلاب السعوديين، وبعد تخرجنا وعودتنا إلى أرض الوطن عُيِّنا معيدين في كلية الآداب بالجامعة، حيث عُيِّنتُ في قسم التاريخ، بينما عين هو في قسم اللغة العربية، وكنا نلتقي في غرفة المعيدين من وقت لآخر، وبعد مضي سنة دراسية أمضيناها في الرياض ابتُعثنا مرة أخرى إلى بريطانيا لمواصلة الدراسة العليا، حيث التحق والأخ أحمد الضبيب بجامعة ليدز، بينما التحقتُ بجامعة لندن  في البداية، ثم في السنة التالية انتقلت إلى جامعة ليدز أيضا في قسم الدراسات الشرقية، وهنا توثقت الصلة بيني وبينهما، وأصبحنا نتقابل يوميا في نفس القسم إما لمقابلة المشرف أو في مكتبة الجامعة أو في فترات الراحة التي نذهب فيها سويا لتناول الشاي أو القهوة، كما نلتقي مساء كل يوم سبت عند أحدنا لتناول طعام العشاء، وبعد حصولنا على شهادة الدكتوراه عدنا إلى أرض الوطن، وعملنا سويا في كلية الآداب بالجامعة، حيث عينت والأخ أبو محمد في قسم التاريخ، ومن ثم توثقت علاقتنا أكثر، وأصبحنا نخطط سويا. 

 

 

ومن خلال تدريسنا لمواد التاريخ، اكتشفنا أن هناك حاجة لربط المعلومات التاريخية بالمواقع الجغرافية، ولن يتحقق ذلك إلا بالقيام برحلات ميدانية تجوب بلادنا العزيزة، ومن ثم وضعنا برنامجا لذلك قدمناه لمعالي مدير الجامعة الذي استحسنه ووافق عليه، وانطلقت الرحلة الأولى من الرياض فالقصيم فحائل فالمدينة المنورة ومنها للعلا وتيماء، واستغرقت الرحلة سبعة عشر يوما، أربعة أيام في كل من القصيم وحائل والعلا، ويومان في تيماء، وثلاثة أيام في المدينة المنورة. 

 

أما الرحلة الثانية فكانت للدوادمي، حيث توجد بها الكثير من النقوش والرسوم الأثرية، وبعدئذٍ قمنا برحلات ليوم دراسي شملت مدينة الدرعية للتعرف على معالمها، ثم منطقة الخرج، وأخيرا قرية الفاو بوادي الدواسر التي أخذت في البداية أياما عدة لوجود كثير من الكتابات والرسوم المنتشرة في جبالها، ثم ركز عليها أبو محمد كثيرا لدرجة أنه خصص كل الإجازات الدراسية لأخذ طلابه إليها والتنقيب عن الآثار، وقد عَرَض خلاصة ما جمعه منها من آثار في أول متحف أُنشِئ في كلية الآداب، ولم يقتصر دور أبي محمد على التدريس ومتابعة «حفرياته» في الفاو، وإنما ناضل بالكتابة في الصحف عن الآثار وفائدتها، وإلقاء المحاضرات في المنتديات الأدبية والعلمية، وهو ما جعله يواجه حملة شرسة ممن يعتقدون أنها من أعمال الشيطان؛ لذا أخذ يشرح لهم أن التنقيب عن الآثار إنما هو لخدمة التاريخ وتفسيره، ورويدا رويدا أصبح الحديث عن الآثار مألوفا.

 

 

وتمضي الأيام وتصبح الحاجة إلى إنشاء قسم للآثار مطلبا، وهكذا يتولى أبو محمد رئاسته سنة، وينضم إليه عدد لا بأس به من أساتذة التاريخ القديم ومن المختصين في التاريخ الإسلامي، والتحق به عدد لا بأس به من الطلاب والطالبات، وركزوا دراستهم على شقين: نظري في المقررات الجامعية المتخصصة، وعملي بالذهاب في رحلات استكشافية في الإجازات الدراسية والمساعدة في التنقيب وتصوير النقوش والرسوم في تلك المناطق الأثرية. ومع مضي الأيام حصلوا على كمية كبيرة من النقوش والرسوم والعملات والفخار وغيرها مما استدعى التعاقد مع مختصين في ترجمة تلك النقوش وفي ترميم الفخار، وتحديد الفترة التاريخية للعملات والفخار لكل منها. 

 

وإلى جانب عمله في قسم الآثار والإشراف على الحفريات ورسائل الماجستير والدكتوراه، تمكن لاحقا وبمساعدة أعضاء القسم من دراسة المادة العلمية التي جُمِعَت من قريتي الفاو والعلا، وأصدر حوالي تسعة مجلدات عن قرية الفاو لوحدها، وهي تعد الآن مرجعا علميا رئيسيا في علم الآثار بشبه الجزيرة العربية.

 

ولم يقف نشاطه على هذا وإنما تولى رئاسة «ندوة الجزيرة العربية في التاريخ والآثار» التي خصصت أول ندوة عن مصادر الجزيرة العربية، ولازالت هذه الندوة مستمرة حتى الآن وتعقد كل سنتين أو ثلاث، وقد خصصت الثانية والثالثة للقديم و(عصر النبوة)، والرابعة للخلافة الراشدة وهكذا.

 

 

مُنِح الكثير من الجوائز والأوسمة، كما عُيِّن في المجالس العلمية محليا وخارجيا، وكان يدعى خارجيا لإلقاء المحاضرات، وتحكيم الكثير من البحوث العلمية، ومناقشة أطروحات الماجستير والدكتوراه داخليا وخارجيا، وتخرج على يديه الكثير من الطلاب في جميع مراحل الدراسات الجامعية والعليا، أما على الصعيد الإداري فقد تولى رحمه الله الكثير من المناصب، حيث عُيّن في البداية وكيلاً لكلية الآداب، ثم عميداً للكلية لفترتين، ثم تولى في فترة طويلة أيضا عمادة مركز خدمة المجتمع، ثم عاد إداريا لعمادة كلية الآداب للمرة الثانية، ثم عين عضوا لمجلس الشورى في دورته الأولى، واستمر فيه لثلاث فترات متتالية لمدة اثنتي عشرة سنة، وبعد أن انتهت مدة عضويته بمجلس الشورى عاد إلى قسم الآثار استاذا.

 

 

وأصدر بعد التقاعد سلسلة تاريخية عن بعض مناطق المملكة مع إلقاء بعض المحاضرات وحضور المؤتمرات في الداخل والخارج، كما عين عضوا في المجلس الأعلى للآثار ومستشارا فيه، وتولى -إلى جانب ذلك- رئاسة تحرير مجلة أثرية.  

 

 

وكان الفقيد رحمه الله آية في الكرم والجود، يعمل ذلك بنفس طيبة وثغر باسم، ويحب أن يباشر بنفسه على ضيوفه لدرجة أن كل واحد يشعر بأنه موضع اهتمامه، كما كان يحرص على صِلاته بأقاربه وأرحامه وتفقد أحوالهم، وكذلك الاتصال بزملائه وأصدقائه وطلابه وجيرانه من وقت لآخر، وكان يحافظ على صلاة الجماعة في المسجد.

 

ولا أملك في الختام إلا أن أعزي زوجته الوفية، وأولاده البررة، كما أعزي زملاءه وأصدقاءه ومحبيه، تغمده الله بواسع رحمته، وأرفده رفادة المقبولين، ورفعه في جنات النعيم، وجمعنا به في عليين ... آمين.

 

 

 

أ.د.محمد الشعفي

 

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية

 

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA