مناهجنا والتعليم الأخضر

     ظهر في الآونة الأخيرة مصطلح جديد في لفظه قديم في مفهومه وهو التعليم الأخضر الذي يعني ببساطة خضرنة كل شيء : المدن، والطرق، والمباني، والنقل، والصحراء حتى أن البعض أطلق من خلاله مصطلح جديد للزراعة سمي بالزراعة الخضراء، وما الزراعة إلا خضرة لونها أخضر. سخرت الدول المتقدمة اقتصاداتها لاستحداث تقنيات وتطبيقات وسلوكيات ومناهج وأدوات تهدف إلى المحافظة على البيئة من قبل المتعلم حاضراً ومستقبلاً، وهو ما يسمى بخضرنة المقررات وتخضير التعليم أو ما يسمى بمصطلح التعليم الأخضر.

  

نشأ هذا المصطلح نتيجة -وبما لا يخفى على أحد- وجود خلل كبير في النظام البيئي الذي ظهرت مؤشراته الحديثة والقوية والواضحة في ارتفاع نسب الملوثات الصناعية والبيئية بنسب عالية سواء في الهواء أم الماء وحتى في التربة الزراعية نفسها ، ترتب عليه اتساع ثقب طبقة الأوزون من ناحية، وارتفاع درجة حرارة الأرض من ناحية أخرى ما بين درجتان إلى أربع درجات نتيجة للانبعاث الحراري من المصانع وعوادمها وملوثات عوادم السيارات، وكذلك بسبب القضاء على الغابات وحرقها عن عمد وغير عمد، مما أدى في النهاية إلى ذوبان الجبال الجليدية في القطبين، وارتفاع مستوى البحار والمحيطات حتى توقعت وكالة ناسا في نهاية هذا القرن إلى اختفاء عديد من المدن الساحلية والموانىء، وما نتابعه الآن بين وهلة وأخرى من سيول جارفة وفيضانات في عديد من دول العالم مثل باكستان ونيجيريا والهند والسودان والولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوروبا تصل فيها إلى حد الكوارث والمناطق المنكوبة، ما هو إلا أحد آثار تغير المناخ ووجود خلل بيئي جسيم، بل وأصبح تغير المناخ الواضح ملازماً للكثير من العواصم الأوروبية، حيث تصل درجات الحرارة فيها إلى ارتفاعات غير مسبوقة تصل للأربعينات وقد تزيد. وحدث ولا حرج عن أعداد الوفيات تبعاً لهذا أو ذاك، كل ذلك نتيجة للخلل البيئي الذي تسبب به الإنسان عن قصد أو دون قصد في الأرض التي يعيش عليها، رغم أن الله -عز وجل- خلق وأنبت فيها من كل شيء موزون كما ذكر عز وجل ذلك في كتابه فقال في سورة )الحجر الآية 19(: « والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون «.

أصبح الخلل البيئي والتغير المناخي مشكلة كبيرة إلى هذا الحد، فما الحلول الممكنة والمتاحة؟ إن الاتجاه السائد اليوم هو كيف نحافظ على البيئة ونسلمها للأجيال القادمة بأقل الأضرار والملوثات والمخاطر والآثار، وعلى العالم كله أن يهبّ في مواجهة هذه المشكلات ومحاولة حلها على الوجه الفردي والجماعي والدولي، وكان من الطبيعي أن تضع مملكتنا الحبيبة حلولاً لهذه المشكلات في أولوياتها ورؤيتها الثاقبة الناقدة لتضعها في أوائل اهتماماتها ضمن تحقق رؤيتها 2030 تحت شعار "خضرنة المملكة والرياض الخضراء"، في محاولة لعلاج المشكلة من جذورها وتعويض المفقود من المساحات الخضراء في العالم داخل مساحتها المباركة من ناحية، والقضاء على التصحر والعواصف الترابية من ناحية أخرى. واستخدمت في ذلك طرقاً حديثة مثل الاستمطار الصناعي -بما لا يضر بالبيئة- لزيادة مساحات الأراضي المزروعة داخل المدن والمحافظات بل وعلى أسطح الجبال، لتصل إلى حد الدول الأولى والرائدة في هذه المجالات. 

ويظهر اهتمام العالم بهذه المشكلات ومحاولة حلها من خلال عقد مؤتمرات المناخ وتأثيراته في العديد من المدن والعواصم العالمية، التي تطل علينا برأسها بين حين وآخر؛ من أجل مناقشة تغير المناخ والحلول المقترحة وما تقدِّمه هذه الدول لحل هذه المشكلة وسبل علاجها. 

ولكن إذا كان هذا هو التوجه العام للعالم أجمع، فما موقف مناهج التعليم عامة التي نقدمها لطلابنا منذ صغرهم في الحضانة وحتى تخرجهم من كلياتهم إلى سوق العمل؟ وأخصّ مناهج الرياضيات، فما الذي تقدمه الآن بخصوص هذا الشأن؟ 

 وتستحضر هنا ذاكرتي في رسالتي للماجستير التي قدمتها عام 1997م وكانت بعنوان "فعالية المدخل البيئي في تدريس الرياضيات لتلاميذ الحلقة الثانية من التعليم الأساسي وأثره على التحصيل والاتجاه نحو الرياضيات والبيئة" حيث كانت أول رسالة قدمت في الوطن العربي اختصت بكيفية تدريس الرياضيات من البيئة بهدف الحفاظ على البيئة. وأتذكر كلمة قالها لي أحد مناقشي الرسالة وهي: "كيف يمكن أن تنسج قماشتين من نوعين مختلفين مع بعضهما البعض وهما الرياضيات والبيئة؟" ليجيب عن سؤاله الوقت الحاضر والمستقبل الذي نعيشه الآن.

يجب علينا أن نعمل على تطوير جميع المناهج لتكوين اتجاه يحافظ على البيئة لدى طلابنا وعلى الأخص في مناهج الرياضيات؛ لكونها علماً أساسياً مرتبطاً بالواقع والحياة. إذ يمكن تدريس المسائل الحياتية ونظم العد؛ بل والهندسة الاقليدية أيضا وغيرها من خلال البيئة وإلى البيئة، كما يمكن تدريس الاحتمالات والإحصاء من خلال نسب العوادم والملوثات والمساحات الخضراء، واستنتاج التوقعات المستقبلية ومدى الآثار الكارثية من خلالها، ورغم صعوبة ذلك إلا أنه في غاية الأهمية حتى نقدم لطلابنا نماذج تدريسية مستوحاة من داخل البيئة للحفاظ عليها بصفتها ناتجا تعليميا مستهدفا؛، لتكوين اتجاه إيجابي سليم وعادل في الحفاظ على بيئتنا، وتشجيع المخترعات في إنتاج الطاقة النظيفة والبديلة التي تحد من الملوثات وتقلل وتمحو الآثار الكارثية على أجيال المستقبل.

 

إن مناهجنا وعلى الأخص مناهج الرياضيات تحتاج إلى أساليب جديدة وطرق عرض جديدة ومحتوى جديد متطور يلائم الأحداث الجارية ليحد من التلوث العالي على مستوى العالم، ويراعي التغير في المناخ والمشكلات البيئية المتعددة، وإلا سنكون بوصفنا مختصين في المناهج في وادٍ آخر لا نرى الخطر والمجهول الذي يداهمنا دون إحداث تغيير أو حلول لهذه المشكلات التي قد تحطم حياتنا بالكامل في المستقبل. والمسؤولية الكبيرة على عاتق المسؤولين ومخططي المناهج والأهداف وواضعيها؛ للعمل من أجل بيئة نظيفة ذات مناخ عادل، ومن أجل العودة قدر المستطاع إلى الموزون الذي خلق الله عليه الأرض ومن عليها، ومن أجل أجيال قادمة هم أبناؤنا الذين سنسلمهم الميراث العادل للبيئة. 

    

            د/ هشام عبد الغفار 

    أستاذ تعليم وتدريس الرياضيات المساعد

               قسم العلوم الأساسية

عمادة السنة الأولى المشتركة  

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA