الجودة وأبو فاس ١ - ٢

نعيش في زمن، نواجه فيه الكثير من المصاعب والصراعات والأشخاص والأحداث، وكل حدث له مميزاته وسلبياته ودروسه، ولكل شخص ميوله وسلوكه وأيديولوجياته، وفي زمن أصبح التوثيق والتجويد والاستدامة والأخلاقيات من أولى الاهتمامات البحثية على المستوى الفردي أو الجماعي أو المؤسسي وما فوقهما، إلا أن بعض الأفراد يرون ويعملون غير ذلك، ويتمسكون بكل شيء، ويدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، وأن لا بديل لهم، وهم أشبه بأحد العلاجات الشعبية الـمُنتشرة والـمشهورة الذي يُستخدم لعلاج كل الأمراض قديمًا في الأرياف ويُسمى بــــ "أبو فاس".

ستواجه الكثير من الأفراد ممن يحملون تلك الصفات، في البيت، وفي العمل، وفي الجامعة، وفي المدرسة، وفي الوظيفة، في أي مكان، حتى على مستوى السَّاسَة وصُناع القرار وهُنا المعضلة الكبرى.

وعندما تُسقط عليهم ملامح الشخصية النرجسية ومعالـمها، ستجدها تنطبق عليهم حرفيًا وفعليًا بتعدد أنواعها؛ لأنهم يدَّعون مَعرفة كل شيء، ولا يعترفون لغيرهم، مع أن الكثيرين يقومون بعملهم بكل أريحية وجودة وسهولة ويسّر، لكنهم لا يتركون لغيرهم المجال أو الحوار أو العمل، وإن حادثتهم بذلك يعرضون بكل تَعالٍ، وهذا نقص في دَاخلهم لِيَمْلَؤُونَ فَرَاغَهُمْ وَخَوْفَهُمْ وكبرياءهم وَهَوَسَهُمْ وأنانيتهم وَجَشَعَهُمْ.

تلك التصرفات هي تراكمات في داخلهم منذ طفولتهم، وتكبر وتتعاظم وتصبح سلوكًا قسريًا لديهم، يستكثرون قول شكرًا أو إعجابًا أو سماع ثناءً للآخرين او أي مُقابل مادياً، يريدون كل ذلك لوحدهم فقط، وبهذا يحاولون جاهدين تدمير غيرهم بأية طريقة، فهم كالبوق ينقلون كل شيء، كل الأصوات، أصوات الملائكة، وأصوات الشياطين، أصوات النحل، وأصوات الذباب، ليوظف كل ذلك لكي يشوّه صُورتك، وعملك وإنجازاتك، لِيُحَوِّلهَا إِلَى مَصَائِب وَمُعْضِلَاتٍ، ليبرز تَفَانِيهُ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي زماننا هَذَا..!

مثل هؤلاء الأشخاص ابتعد عنهم، تجنب نقاشهم، لا تحاول تعديل عملهم أو فكرهم، فكل شيء قد تعمله معهم عقيم، حوار أو كلام أو نقاش أو فعل، "أبو فاس" هو المدير، وهو رئيس القسم، وهو الموظف، وهو السكرتير، وهو الفرّاش، وهو الحارس، وهو الجَنائنِيّ، هو كل شيء..!

هو العالم والخبير الدولي، والشيخ المخملي، والباحث والدراس والمعملي والمُحلل والمؤلف والناشر، هو السياسي والاديب والجهبذ والمهتم ورئيس التحرير والمحرر والمدقق والمراجع والناقد، والمقرر ونظرته هي العُليا، وذو الرؤية والاقتراحات الخُنفشارية في كافة المجالات والتخصصات، صاحب جميع الإجابات والفتاوى، وحلاّل المشاكل، وصاحب النظرةُ الثاقبة، ومع أن التوجيه الرباني واضح وصريح كما ورد في سورة الإسراء؛ إذ قال المولى عزوجل:

﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مسئولاً ﴾ صدق الله العظيم، الإسراء (36).

نحن أمام مُعضلة تتنامى وتتكاثر في مُجتمعاتنا بمثل هؤلاء الخنفشاريين، إنهم لا يدَعون لغيرهم المجال، ويأخرون الأعمال، إنهم كثيرو الوعود، قليلو الإيفاء، يختلقون الأعذار، ويدعون أن غيرهم غبي، وهم وحدهم الشُطّار، وهم أخطر فئة في أي مصلحة وأي كيان كان؛ لأنهم يسببون إرهاقات نفسية، وخسائر للكوادر البشرية، وخسائر مادية، وانتكاسات عِلمية وعَملية، فادعاء المعرفة والمستحوذون على كل شيء، هم في الحقيقة يذكروني بالمثل المصري: "صاحب صنعتين كذاب، وصاحب ثلاث صنعات حرامي" فَكَمْ هناك مَنْ " كَذَّاب وَحَرَامِيّ " فِي مرَافِقِنَا.

"أبو فاس" يدّعي معرفة كل شيء، ولا يدع للآخرين مُشاركة الأفكار والأعمال، ويحجّم الجميع من المشاركة معه؛ لأنه يقوم بمقام المُحارب والمُهاجم والحَارس، فلا يقبل أي كُرةٍ أو فكرةٍ بالدخولِ لحلبة الاجتماعات، وحظيرة الأعمال، ومعمل الأفكار والأبحاث، والدائرة الوظيفية، يهاجم بكل سلبية ودونية وتعال وثقة فضفاضة، وفي الحديث الشريف قال النبي صلوات ربي وسلامه عليه: (إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ الَّذِينَ يُكْرَمُونَ اتِّقَاءَ أَلْسِنَتِهِمْ).

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA