يحل علينا شهر رمضان الكريم هذا العام ونحن في بدايات أشهر الربيع، وسيظل ضيفًا لبضع سنوات قادمة متزامنًا مع هذا الفصل، أثاب الله الصائمين والقائمين فيه وأعظم لهم الأجر والثواب. وهنا قد يغيب عن بال البعض أن ثمة فرقًا بين الصوم والصيام، نعم، الصيام -كما نعلم- هو الإمساك عن الطعام والشراب وباقي المفطرات من الفجر حتى المغرب، وهي الفريضه المعروفة التي يلتزم بها المسلم خلال شهر رمضان المبارك، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ﴿البقرة: ١٨٣﴾، وهنا لم يقل «الصوم»؛ لأن الصوم يخص الأقوال والأفعال من حيث الامتناع عن الألفاظ الجارحة والإقلاع عن الأعمال المسيئة سواءً أكان ذلك في رمضان أم في غيره، قال تعالى: «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ﴿مريم: ٢٦﴾، وهنا نلاحظ أن مريم -عليها السلام- نذرت صومًا وبإمكانها أن تأكل وتشرب، إذن «الصيام» وحده دون أن يرافقه «الصوم» لا يؤدي الغرض المطلوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له الا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، ونلاحظ هنا أن المولى -جلا وعلا- ذكر الصوم ولم يذكر الصيام، حيث إن الصيام يقدر عليه حتى الحدث الصغير، أما الصوم فهو الذي يحتاج إلى جلد كبير وصبر عظيم، فتحمُّل الأذى والمكاره، والصبر على الالتزام بالحقوق والواجبات، وقول الحق، هي من الأمور التي تحتاج إلى أناة وصبر وجلد وجهاد عظيم مع النفس، ونحن مع قول أصدق القائلين وأكرم الأكرمين: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ﴿آل عمران: ١٣٤﴾.
وبعد هذه التعريفات التي لا تخفى على أحد نأتي إلى الاستمتاع بنفحات من هذا الشهر الكريم وفضائله وعطاءاته، وبالتحديد في المجالات الخيرية والمناحي الإنسانية، حيث دشّن خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين -يحفظهما الله- يوم الجمعة السابع من رمضان الحملة الوطنية للعمل الخيري التي تُقام للعام الثاني على التوالي بتبرعين سخيَّيْن مجموعهما 50 مليون ريال، ويأتي ذلك في إطار ما توليه القيادة الحكيمة من عظيم اهتمام بدعم العمل الخيري، وامتدادًا لحرصها على تشجيع قيم البذل والعطاء، وتحفيز الموسرين وفاعلي الخير على تعزيز التكافل الاجتماعي في هذا الشهر الفضيل، ولقد أتت هذه المبادرة السخيَّة امتدادًا للجهود الكثيفة والخُطا الحثيثة التي تقدمها المملكة لتصبح بحق رائدة للسبق الخيري، وينبوعًا للفيض الإنساني؛ لدعم الأنشطة الخيرية وتحفيزها، كمنصة «إحسان» في التمكين الرقمي للعمل الخيري، بوصفها فكرة رائدة متميزة، أنارت السبل لتيسير مسارات التصدُّق والتبرُّع للمحتاجين والمعوزين والمدينين والأيتام والأرامل وأسر الشهداء والسجناء بطريقة آمنة ميسرة تضمن وصول الدعم المالي إلى مستحقيه بشكل يحفظ الكرامة وماء الوجه، مما يأذن بمستقبل زاهر لبلد معطاء وشعب كريم ينوّه بالتميُّز الذي تجذر تاريخيًّا حتى أصبحت المملكة -بفضل الله تعالى ثم بفضل قادتها الملهمين- رائدة للمبادرات الإنسانية والأعمال الخيرية على مستوى العالم أجمع.
ويُعتبر هذا الشهر الفضيل مدرسة ربانية نتعلم فيها ونستلهم منها كثيرًا من الخلال الفاضلة والمعاني السامية الدينية منها والدنيوية، ففيه مثلا نتعلم الاقتصاد والاعتدال في مأكلنا ومشربنا، وأن نبتعد عن الهدر والإسراف والتبذير، متمثلين وملتزمين بقول الرب تبارك وتعالى في آيات من كتابه الكريم، منها على سبيل المثال في ذم الإسراف والحث على نبذه واجتنابه: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ﴿الأعراف:٣١﴾، وكذلك في توبيخ المبذرين وتحقير شأنهم: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا» ﴿الإسراء: ٢٧﴾، كذلك الإشادة بالوسطية والاعتدال في الصرف والإنفاق: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا» ﴿الفرقان: ٦٧﴾.
ولننتقل الآن إلى قضية آخرى لارتباطها الوثيق بهذا الشهر الفضيل، حيث يُرى أن لها من الأهمية وبعد الأثر ما يرفع من شأنها ويجعلها جديرة بطَرْقها ومناقشتها وغربلتها؛ بغية إيجاد أفضل الحلول لها وأنجعها، وهي قضية اجتماعية ليست وليدة اليوم؛ بل طالما أرَّقت الأذهان وآلمت الأنفس وأوجعت المشاعر منذ وقت طويل، ألا وهي ظاهرةالتسوُّل، ومن هذا المنطلق وفي خطوة قوية وثابتة وحاسمة للتصدي لظاهرة التسول ودرء انتشارها وتفاقمها واتساع رقعتها أصدر مجلس الوزراء الموقر «نظام مكافحة التسول» الذي أُسند أمر متابعته وتنفيذه لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وعلى ضوء توجهات هذا النظام وحيثيات ونصوص بنوده فسيكون بلا شك بمثابة علاج ناجع وصمام أمان ضد تنامي هذه الظاهرة وتفشيها بشكل يسيء للوطن ومواطنيه. ومن أبرز بنود هذا النظام -فيما يختص تحديدًا بالمتسولين من المواطنين- دعوته إلى دراسة الحالات الاجتماعية والصحية والنفسية والاقتصادية لهم وتقصِّي أسبابها وتوفير الخدمات حسب حالاتهم، وإرشادهم للاستفادة من الخدمات التي تقدمها الجهات الحكومية والجمعيات الخيرية لهم. كما دعا إلى إنشاء قاعدة بيانات للمتسولين بالاشتراك مع وزارة الداخلية، وتسجيل كل حالة تسول يتم القبض عليها، وكذلك كل حالة تقدم لها الوزارة الخدمات المنصوص عليها في النظام، إلى جانب الاهتمام بنشر الوعي بمخاطر التسوُّل النفسية والصحية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، إلى جانب إعداد الدراسات والبحوث وعقد الندوات والمؤتمرات ذوات العلاقة بمكافحة التسول، كما بيَّن العقوبات والغرامات التي تطال من يمتهن التسول، مع تطبيق إجراءات أشدّ بمضاعفة العقوبة في حال العودة لممارسته. أما بالنسبة للمتسولين الأجانب فقد جاء النظام صريحًا ومحدَّدًا وصارمًا بمعاقبة كل من امتهن التسول أو شجَّع عليه أو سانده أو سعى لتشكيل وإيواء وإدارة تجمعات منظمة لامتهان وممارسة التسول بعقوبات تشمل السجن والغرامات والإبعاد عن المملكة.
وأخيرًا، إن ديننا الحنيف بلا شك يحثنا دائمًا على العطف على الفقراء والمساكين واقتطاع جزء من أموالنا لننفقها على أولئك المحرومين والمعوزين، ولكن يجب أن يكون ذلك من خلال برامج منظمة تتولاها جمعيات ومؤسسات خيرية غير ربحية، تعمل بوصفها حلقة وصل بين فاعلي الخير وبين المحتاجين الذين يحتاجون للمال ولكن الحياء والأنفة والتعفف وعزة النفس تمنعهم من السؤال والتسوُّل وإهانة النفس أمام الآخرين، وبهذا لا يتاح المجال أمام تلك الفئة الشاذة أن تمارس تلك الظاهرة السيئة علنًا، وبخاصة في شهر رمضان، ومن جهة أخرى تحفظ ماء الوجه لأولئك المحتاجين حقًّا، وهذه الفئة هي الأحق بالعطاء والأولى بالصدقة؛ لأنهم هم أولئك الذين يحتاجون فعلا، والذين تحسبهم أغنياء من التعفف.
الأستاذ الدكتور / عبد الله محمد الشعلان
إضافة تعليق جديد