هل الشعر ضرورة أم ترف؟ ماذا يقول العلم؟

ثقافية رسالة الجامعة تسأل :

 

 

رسالة الجامعة – أريج السويلم

 

تجيب الأستاذة مهره بنت عبدالله العتيبي المحاضرة في قسم اللغة الإنجليزية قائلة :

هل قراءة الشعر ضرورة أم ترف؟ وماذا عن كتابته؟ وهل الاستماع للشعر المقروء يؤثر في المستمع إن سلبًا أو إيجابًا؟  وإن كان هنالك تأثير فهل يدعم العلم ذلك؟ وهل توجد دراسات تدعم فرضية أن للشعر تأثيرًا ليس فقط محببًا ولكن مهمًا ومطلوباً؟ سأتناول في هذا المقال -وفي حدود ما تسمح به المساحة- هذه الأسئلة وسأخلص إلى نتيجة قد تكون مفاجئة للبعض بخصوص الشعر وتأثيره في المتلقي (من ناحية علمية).

يعتقد البعض أن قراءة الشعر نوع من أنواع التسلية لتزجية الوقت أو على أفضل الأحوال لاستخلاص الدروس والعبر من حيوات الأمم السابقة، أما دراسته فيعتبرونها ضربًا من ضروب الترف التي لا ترقى إلى كونها ضرورة أو ذات أهمية سواء على المستوى الشخصي أو العام. وتمتد جذور هذه النظرة للشعر منذ الأزمنة القديمة حيث عدّ بعض الكتّاب الإغريقيين الشعر نوعًا من أنواع التسلية التي لا ترقى إلى مكانة العلوم الطبيعية، وأعلوا من مكانة العلوم التجريبية حتى جعلوها المقياس الأهم والمعيار الأكبر لقياس معرفة الشخص وتفاعله مع محيطه وتأثيره فيه. ولكن هذه النظرة ما لبثت أن تغيرت رويدًا رويدًا، ويرجع الفضل في هذا التغيير إلى شعراء الحركة الرومانتيكية الإنجليزية الذين أدخلوا نظرة جديدة  للشعر؛ حيث إنهم جعلوا من الشعر جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية ، فقد أكدوا أن العلوم البحتة بإمكانها، على سبيل المثال، أن تحدد بدقة أنواع النباتات  والزهور ومواصفاتها و الظروف المناسبة لنمو كل نوع وما إلى ذلك من معلومات بحتة، ولكنها لا تستطيع أن تخبرنا عن شعور الإنسان حال تفاعله مع هذه الزهور، وتأثيرها فيه، وما يختلج في روحه حين يختار أن يناجي القمر أو البحر. وهذا التغيير استند في بدايته على ما كتبه اثنان من أبرز رواد هذه الحركة الشعرية وهما ويليام وردزورث وصامويل تايلر كولرج. ففي مقدمة ديوان «الأناشيد الغنائية» يُعرّف وردزورث الشعر بأنه «فيض عفوي للمشاعر الجياشة» حيث انتقل الشعر من وصف العالم الخارجي بوصفه موضوعًا للقصيدة إلى وصف ما يجول داخل الشاعر من انفعالات وأحاسيس حال تفاعله مع ما هو خارجه، وهذا التحول الكبير نقل الشعر إلى مرحلة جديدة، وشدد على أهمية المشاعر والأحاسيس والتعبير عما يحس به القارئ والمتلقي، ولكن هل هذا وحده كفيل بالقول إن وجود الشعر ضرورة وليس ترفًا؟ وأنه قد يكون محفزًا إيجابيًا وعاملًا مهمًا في تحسين جودة حياة المتلقي ونظرته للعالم من حوله؟

تقول الشاعرة الآفروأمريكية أودري لورد في مقالة لها بعنوان « ليس الشعر ترفا»  إن الشعر هو «السبيل الذي يساعدنا في معرفة ذواتنا، وتسمية ما لا يمكن تسميته» وهو بذلك يشكل «طريقًا حقيقيًا نحو المعرفة». ويعزز من وجاهة الاقتباس السابق للشاعرة دراسة نشرت في دورية علم الأعصاب المعرفي السلوكي  Social Cognitive and Affective Neuroscience في عام ٢٠١٧ تناقش ما يحدث للدماغ حين يقرأ الشخص الشعر أو يسمعه، وتعقد مقارنة بين تأثير الموسيقى وتأثير الشعر على المستمع والمتلقي.  وقد شملت عينة الدراسة مجموعة من النساء الناطقات بالألمانية، وقد طُلب منهن الإنصات لقراءة مجموعة من القصائد لبعض أفضل شعراء ألمانيا. وفي أثناء ذلك سجل الباحثون ملاحظاتهم حول تعابير الوجه ومعدل ضربات القلب، والشعور بالقشعريرة. خلصت الدراسة إلى أن تأثير الاستماع للشعر على الدماغ يشبه تأثير الدوبامين (هرمون السعادة)، وأشاروا إلى أن الاستماع للقصائد حفز عند المشتركات في التجربة شعورًا شبيهًا بالشعور الذي يسبق الحصول على مكافأة تسر الشخص -كقطعة شوكولاته مثلا- وأنه كلما ازداد الحماس أو الانفعال مع النص ازداد تفاعل الدماغ.  وباستخدام علم النفس الفسيولوجي والتصوير العصبي والاستجابات السلوكية، لاحظ القائمون على التجربة أن قراءة الشعر بصوت مرتفع يمكن أن تكون بمثابة حافز قوي لتحفيز ذروة الاستجابات العاطفية. والأهم من ذلك، أنه في حين أن هذه الاستجابات للشعر تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة في الموسيقى، فإن الأسس العصبية تظهر اختلافات مهمة، خاصة فيما يتعلق بالدور الحاسم للنواة المتكئة وهي منطقة هامة في الدماغ تنشط عند الحصول عل المكافآت سواء كانت مكافآت معنوية -كالإطراء والثناء- أو حسية كالحصول على هدية أو مبلغ مالي. لذلك فإن قراءة الشعر والاستماع إليه تجربة ذات أهمية سواء كانت على الصعيد المعنوي أو الحسي كما وأن العلم أثبت أهمية الشعر وأنه ليس ترفًا أو نشاطًا غير ذي معنى خاصة فيما يتعلق بنشاط الدماغ وتأثيره عليه.   

   إضافة إلى ذلك فقد عمد بعض الباحثين إلى تجربة علمية أكدت الدور الإيجابي للشعر كتابة أو استماعًا في الاستشفاء والتعافي من بعض الأمراض النفسية والعقلية وخاصة الاكتئاب، تقول ليا تافورد:» إن كتابة الشعر قد تساعد على تجميع وإطلاق المشاعر الحادة التي أثارتها تجربة مؤلمة» إذ إن الشخص المكتئب لا يستطيع مواجهة المشكلات العميقة بشكل مباشر عن طريق صياغتها في ألفاظ ذات دلالات مباشرة، إنما يمكنه ذلك باستخدام الصور والاستعارات والإيحاءات البلاغية المنبثقة من القصائد الشعرية، وهو ما يخفف عليه وطأة التعامل مع هذه المخاوف والانفعالات ويدعم التعافي»ً.

و ختامًا يمكننا القول إن التغيير الذي أحدثه الشعراء ابتداء من شعراء الحركة الرومانتيكية حتى عصرنا هذا أحدث أثرًا إيجابيًا وتغييرًا ملموسًا، ليس من ناحية كتابة الشعر فقط، بل من ناحية مفهومه و ماهيته، وأهميته في حياة المتلقي. وأثبتت الدراسات العلمية أن الشعر -قراءة واستماعا- ليس من الكماليات أو مما يزيد عن حاجة الفرد، بل هو عامل هام في الشعور بالتقدير والرضا عن الذات، وكما قال أحد أبرز الشعراء الإنجليز يوما: «الشعر هو فنّ جمع المتعة بالحقيقة.»

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA