خطوات استراتيجية للتخطيط العمراني

بقلم الطالبة: غلا حمد الطريّف

كلية العمارة والتخطيط – جامعة الملك سعود

تعمل القضايا الإستراتيجية، وبشكل عام، على الدول إلى تثبيت وتطبيق فئات وآليات من التفكير والعمل نحو إدارة مُدنها وجعلها مدن مندمجة في كياناتها النشطة اجتماعيا واقتصاديا. ويسعى المخططون في المدينة على رسم وتخطيط المشاريع لتتسق مع ما فرض عليها من متخذي القرار ولتتماشى مع قضاياها الإستراتيجية حاضراً ومستقبلا. نجاحات مخططي المُدن تعتمد حتماً على فهم للقضايا الإستراتيجية وتفعيل العلاقة المتبادلة وبشكلٍ فاعل مع صانعي ومتخذي القرار لكافة الدول.

كما يهدف التخطيط العمراني إلى زيادة القدرات الإستراتيجية للمدينة العصرية والساعية إلى رسم مستقبل مشرق لقاطنيها بكافة أطيافهم، وتعمل على استخدام الأساليب والمناهج الإستراتيجية وكافة الأدوات وتطبيق الإجراءات العلمية وتطوير التقنية لتحسين فعالية أداء العمل العام من أجل التأكيد على مسألة الشراكة مع كافة العاملين من مسؤولي الحكومات المركزية والمحلية وأطراف أخرى مثل مطوري المدن في سبيل تحقيق خطط العمل التخطيطية لمختلف مدن الدولة.

يتكون التخطيط العمراني من عدة عمليات يتشكل بشكل طبقات ومكون من عدة مراحل مخططة ومدروسة بعناية وبلا شك محددة تشمل التخطيط الإستراتيجي والتنظيم المنهجي الاستراتيجي، والدراسة الدقيقة للبيئة (دراسة فاحصة ودقيقة)، وتحديد للمشاكل الرئيسية التي يجب التعامل معها والأخذ بها بعين الاعتبار عند التخطيط، وأخيراً صياغة ورسم المهام، شاملاً تحليل الأهداف وتحديد الممكن منها وبناء خطط العمل والتنفيذ، وقد يشمل لدى البعض من الجهات مسؤولية المراقبة وما يسمى بالتقييم.

وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التوضيح بأنه وعلى عكس التخطيط التقليدي، ينبغي أن يكون التخطيط الإستراتيجي تكراريًا منذ البداية؛ بمعنى أن تصبح عملية التخطيط العمراني عملية شاملة وإجراء متكامل يعمل على تحقيق دراسة تفصيلية وتحليل شامل للبيئة؛ بناءً على سلسلة من المؤشرات الاجتماعية والديموغرافية (الهرم العمري، ومستويات التعليم، والهجرة) وكذلك الاقتصادية (التوزيع حسب القطاعات، ومعدلات أخرى كالبطالة، وما إلى ذلك)؛ وتلك المادية والبيئية كـ(سهولة التنقل، وطبيعة المناخ والبيئة، وما إلى ذلك). ولا يسعنا هنا سرد كافة حلقات السلسة فهي تطول وتشمل مؤشرات محلية وإقليمية وعالمية؛ وهذا ما لمسناه جميعاً أثناء حدوث الإنتشار الواسع لوباء كوفيد (Covid-19)، وكيف كان له التأثير المباشر على البشر ومُدنهم.

ومما يتوجب توضيحه كذلك فالتخطيط العمراني يرحب بالخطط الهرمية كطريقة لتنسيق وتطبيق السياسات العمرانية، والتقييد بالخطط العمرانية المرسومة وفق خطط ولوائح صانعي القرار الإستراتيجي، بينما نجد بأن، التخطيط العمراني الاستراتيجي يفضل التنسيق حسب ما تفرضه الأسواق ومستقبلها وتطورات الاقتصاديات للمُدن.

وهنا نقدم أمثلة على مكونات التخطيط العمراني الإستراتيجي، فمثلاَ مدينة ليون الفرنسية، ووفق عدد من دراسات التخطيط العمراني، تشكلت وتطورت وفق نموذج تخطيط إستراتيجي شمل عناصر اقتصادية واجتماعية وبيئية متعددة. فعملية التخطيط العمراني لديها كانت وما زالت وفق المفهوم الشامل ويتم هذا الإجراء المتكامل بعد استكمال الدراسات التفصيلية وإجراء التحليلات الشاملة والهادفة إلى حماية البيئة؛ والموروث الثقافي العمراني. كما سعت إلى بناء سلسلة من المؤشرات الاجتماعية والديموغرافية مثل ما ذكرنا أعلاه كـ(الهرم العمري، ومستويات التعليم، والهجرة) وكذلك الاقتصادية (التوزيع حسب القطاعات، ومعدلات أخرى كالبطالة، وما إلى ذلك)؛ والمادية منها والبيئية كـ(سهولة التنقل، وطبيعة المناخ والبيئة، وما إلى ذلك)؛ مما أسهم من تحقيق التخطيط العمراني الاستراتيجي والساعي إلى نجاح المستهدفات التي وضعها أصحاب القرار السياسي ورسمها مهندسو التخطيط العمراني لهذه المدينة الفرنسية العريقة.

ونجد أيضاً مثال معاصر، فمثلاً دولة ومدينة سنغافورة اليوم، تُعد نموذجاً للتخطيط العمراني الإستراتيجي الناجح ومثالاً للمدينة العصرية، وهي كما فهمنا موضع حسد العديد من المدن والبلدان. ففي غضون 50 عاماً، نجدها انتقلت من دولة من دول العالم الثالث إلى مكانة عالمية وأصبحت مدينة عالمية، حيث يمكن مقارنة مستوى حداثتها بمستوى الدول الصناعية الكبرى، وغالباً ما يشار إليها على أنها "نموذج للتخطيط الحضري في ظل رأسمالية الدولة".

ويأتي اهتمام النموذج السنغافوري من حقيقة أنه يقترح منهاجية فاعلة تجمع بين التنمية الاقتصادية والتخطيط الحضري، مع توفير بيئة مستدامة وجيدة للمواطنين وللمقيمين.

ولتحقيق هذا التخطيط العمراني الإستراتيجي الناجح، مثل مدينة هونغ كونغ، اعتمدت سنغافورة في تطويرها على البنية التحتية لموانئها حيث أنها تخدم قطاعاتها المالية والخدمية وأسهمت في التوسع الحضري السريع والتحول الصناعي للمدينة بشكلٍ خاص وللدولة بشكل عام؛ وذلك لكونها من أكبر مراكز تكرير النفط في العالم مع محافظتها على البيئة ضمن إطار بروتوكول كيوتو. ويلاحظ بأن التخطيط العمراني لهذه المدينة والدولة على حدٍ سواء يقوم وبشكلٍ دائم على إعادة هيكلة اقتصادها وتخطيطها الحضري نحو التنمية المستدامة وتنمية الاستثمارات.

ولا ننسى في هذا المقام، بأنه قد تم تفعيل العديد من المبادرات الحضرية مثل مبادرة "الأمة الذكية"، حيث تعد مدينة سنغافورة من المدن الرائدة في مجال التقنية والابتكار الرقمي ومن بين ما يسمى بـ"المدن الذكية".

وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أن تأثير المساحة الإستراتيجي قد لعب الدور الأساس في تحقيق التخطيط العمراني الناجح حيث يعتبر الكثير من المخططون العمرانيون اليوم، وحول العالم أجمع، مدينة سنغافورة "مدينة عالمية".

عملت الدولة السنغافورية وأصحاب القرار السياسي والاستراتيجي بشكل متناغم مع مخططي ومهندسي التخطيط العمراني لبناء نموذجاً يعكس التخطيط الحضري عالي الكثافة في وقت مبكر جدا؛ عاكساً بشكل تخطيطي ومعماري ومهندسي النموذج الإستراتيجي الذي رسمته الإرادة السياسية الواضحة للدولة والهادف إلى تعزيز شكل معين من الحياة الاجتماعية، متناغم مع كافة الأعراق، داخل بيئة عمرانية وعصرية. ومن أهم الوكالات التي يتم تقديمها والتي ساهمت في رسم هذا التخطيط العمراني نجد هيئة إعادة التخطيط والتطوير العمراني (أورا)وكذلك المجلس الإسكاني والتنموي.

ومما يجب الإشارة إليه فخطط التخطيط العمراني الحالية تنفذ خطة قائمة على أنه لامركزية؛ فالبنى التحتية والإسكان من المنطقة الوسطى إلى الأطراف، وهذا يقود نحو تطور المناطق السكنية بالقرب من التجمعات والمجمعات الصناعية الجديدة. وقد شمل أيضاً التخطيط العمراني البداء في بناء البنى التحتية تحت الأرض في وسط المدينة، مما أنتج زيادة الكثافة السكانية في الضواحي، مع المحافظة وفق خطط التخطيط العمراني الإستراتيجية على مساحات معيشية مناسبة ومتوافقة مع البيئة ومعايير المحافظة عليها واستدامتها.

وكمثال للتخطيط العمراني نشير إلى أن سنغافورة تنقسم إلى إلى 5 مناطق إدارية: المنطقة الوسطى، والمنطقة الشرقية، والمنطقة الغربية، والمنطقة الشمالية الشرقية، والمنطقة الشمالية؛ وكل منطقة منها تنقسم إلى 55 منطقة أو منطقة تنموية عمرانية (مناطق تخطيط عمراني)، والتي بدورها تنقسم إلى 344 منطقة (مناطق فرعية).

وتقع مرافق الميناء وأحواض بناء السفن وجزء كبير من المنطقة الصناعية في الطرف الجنوبي الغربي، وفي منطقة تواس (أون) وفي جزيرة جورونج. كما تتركز مصافي النفط ومصانع البتروكيماويات ومراكز البحوث الصناعية في جزيرة جورونغ، خارج المناطق السكنية. وتم أيضاً قبالة جورونغ تثبيت المكب العام، في جزيرة سيماكاو.

أما جزيرة سنتوسا، بالقرب من وسط المدينة، فهي مخصصة للسياحة.؛ مثلها مثل عدد من الجزر فهي أيضاً موطن لبعض المرافق السياحية: جزر سانت جون، وكوسو، قبالة سنتوسا، وتحظى بتقدير خاص لشواطئها؛ بولاو أوبين إلى الشمال الشرقي، وظلت محافظة تماماً على حالتها الطبيعية.

وتعد المساحات الخضراء والمنتشرة في كل مكان جزءا لا يتجزأ من المشهد العمراني في سنغافورة. فوفقاً لدراسات المركز الوطني السنغافوري للعمارة والتخطيط تغطي المساحات الخضراء من 47٪ إلى ما يقارب من 56٪ من أراضيها.

وختام القول، نؤكد ما ذهب إليه هذا المقال المتواضع حول التخطيط العمراني بقولنا ما يلي: التخطيط العمراني الناجح يستند بلا شك على وضوح الأهداف المطروحة من صانعي القرار السياسي الاستراتيجي على طاولة مهندسي التخطيط العمراني.  

 

روابط ذات علاقة (مراجع):

 

 

 

* مقالة ذات أهداف وأغراض علمية

 

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA