منذ عقود عدة وصل جهاز «الميكروويف» إلى دولة أيسلندا، ورغم صغر عدد سكان تلك الجزيرة النائية وعزلتها الجغرافية التي تحتاج معها إلى جسور أكثر مع العالم الخارجي تفرض عليها تقبل التسميات الجديدة والتعامل بها، خاصة مع الأدوات التي لم تخترعها؛ رأت المؤسسات الثقافية الأيسلندية حينها أن اسم الجهاز مُقحم على قاموسها اللغوي، وأنه يشكل خطرًا على اللسان الوطني؛ ففتشت سريعًا عن بديل أيسلندي له وفرضته على اللسان الشعبي لديها؛ فكانت كلمة «أوربالجوفان» «orbylgjuofn» هي البديل.
معارك الكلمات...
كان «ترند» هو آخر المعارك اللغوية، لكنه ليس أهمها ولا أكبرها، فقد سبق ذلك مناوشات كثيرة في ميدان الحروف، وللأسف لم يقف المجمع اللغوي فيها موقف المؤسسات الثقافية الأيسلندية، بل كان تدخله على استحياء، وفي الغالب كان يقبل بالأمر الواقع ويضم الكلمة الجديدة، سواء كانت عامية أم أجنبية، إلى منشوراته الجديدة معلنًا موافقته السخية عليها.
لدينا كلمات مثل: بنك، سوبر ماركت، مول، سينما، ساندويتش، أرشيف، أجندة، فيس بوك، يوتيوب... وغير ذلك من مئات الكلمات الأجنبية التي غزت شارعنا العربي، وأفسحت لنفسها مكانًا على ألسنتنا العربية بإرادة كاملة منا، وبتسليم شبه كامل من المجمع اللغوي حتى صار البعض يخلط الأجنبية بالعربية في حديثه إلى المجتمع العربي، بل صار مثل هذا الأمر وجاهة لدى الكثيرين.
المَجمع يأتي متأخرًا
في عام 2014، بعد 10 أعوام من تأسيس الفيس بوك انتبه المجمع اللغوي بشكل مفاجئ، وخرج إلى المجتمع العربي معلنًا أنه شعر بخطر سطوة ذلك المصطلح الأجنبي «فيس بوك»، وأنه توصل إلى طريقة لتعريب تلك المنصة الأجنبية في لساننا القومي؛ فقرر أن يأخذ الكلمة إلى نطاقها العربي، وبعد بحث عميق عن بديل بعيد عن الحروف الأصلية، وجد المجمع أنه تأخر كثيرًا وأن حضور الكلمة صار أقوى من التغيير، فما كان منه إلا أن يعد «الفَسْبَكة» مصدرًا، واشتق منها اشتقاقاتها كأنها كلمة عربية، ورغم شبه التطابق بين اختيار المجمع والنحت الجديد فلم ينتبه أحد إلى التوجيه الخافت للمجمع، واستمر استخدام الفيس بوك على طريقته الأصلية في كل المنصات الثقافية.
هل المجمع ضحية؟
يرى الكثير أن مصطلح «ترِنْد» قد فرض حضوره ابتداءً، وأن المجمع اللغوي ليس بوسعه أن يفعل أكثر مما فعل؛ فليس لديه طاقة لمواجهته أو لفرض بديل سواء مع هذه التسمية أو مع غيرها؛ فكما فعل قبل ذلك مع عشرات الكلمات العامية مثل: الاستعباط، البهرجة، التهريج، التهويش، التسيب، رحرح، خَوْتة، وضمها إلى القاموس الفصيح منذ سنوات انحناء أمام الموجة الشعبية العامة وقوة رواج الكلمات، فما المانع أن يفعل الأمر نفسه مع الكلمات الأجنبية، لا سيما أن كلمة «ترند» صار لها سطوة كبيرة بين شرائح المجتمع المختلفة، حتى إنها صارت تتردد على المنابر والمحاضرات الأكاديمية، إضافة إلى أنها منتج ثقافي أجنبي بالأساس لم يكن من نحت العرب.
وجاء ذلك الاعتراض الأخير على لسان متحدث المجمع اللغوي في إحدى مداخلاته التلفزيونية، حتى إنه عندما سئل: لماذا لم تبحثوا عن بديل مثل كلمة «رائج»؟ أجاب بأنهم وجدوا أن المصطلح العربي مشغول بمعنى آخر، ولن يستطيع مواجهة المصطلح الأجنبي الذي استقر في العرف والوجدان العربي العام.
احرسوا القاموس
لكن الأمر أكبر بكثير من مصطلح «ترند» وبعض الكلمات الأجنبية؛ فالخطورة تكمن في استمرار التدفق الاصطلاحي من اللسان الأجنبي إلى العربي حتى يزيح أمامه مع السنوات جزءًا من مادتنا اللغوية الأصيلة ويضيق المساحات التي تتحرك فيها الكلمة العربية، ويفعل في أعوام معدودة ما لم يستطع الاحتلال أن يفعله في عشرات السنين، وذلك الأمر يقتضي فرض حراسة مشددة، ليس من قِبَل المجمع اللغوي فحسب، بل من قِبَل كل حاملي اللسان العربي الناطقين به الغيورين.
وعليه، فنحن بحاجة الآن إلى خُطة عملية يباشرها المجمع اللغوي والأنظمة والشعوب كي يتمكن المجمع اللغوي من حراسة قاموسنا، وبقدر ما يقع على المجمع ورجاله من مسؤولية رئيسة في نحت اللفظ الفصيح، واعتبار منصته لها هيبة دور الإفتاء فإن المجمع يحتاج إلى بعض المقومات التي تجعل حضوره أقوى من مجرد الشكل الهيكلي.
وأول ما يحتاجه المجمع هو «حساسية الوقت»، ونعني بها أن يكون متيقظًا للرواج الكبير الذي تحدثه الكلمات الأجنبية في توقيت صدورها وبداية ذيوعها؛ فمنصة «تويتر» ومعها كلمة «ترند» التي أثارت المعركة، متداولة منذ أكثر من 15 عامًا، وهذه المدة كافية لاستقرار أنظمة سياسية، وليس فقط استقرار كلمة تتداولها عشرات المنصات؛ فالبطء الذي يعانيه المجمع اللغوي يكشف للمجتمع العربي ضعف حساسيته وتكاسله وتعامله البيروقراطي مع المصطلحات كأنه مصلحة حكومية تقليدية.
وثاني ما يحتاجه المجمع اللغوي هو أمر متعلق بالمنظومات الرسمية؛ فعليها –بدايةً- أن تعطي المجمع اللغوي سلطة تثبت به حضورها فلا تحتاج إلى أن تتماهى مع الأوضاع باستمرار، ولا تفتح الباب للعامية اضطرارًا ولا تستكين أمام غزو الكلمة الغربية، وبالسلطة التي سيمنحها المجمع اللغوي يستطيع أن يباشر اتصالاته مع الحقول المهنية المختلفة، خاصة القائمة على الكلمة المكتوبة مثل الصحافة بنوعيها الإلكتروني والورقي ودور النشر أو المؤسسات التثقيفية المنتشرة في ربوع الدول العربية.
وثالث ما يحتاجه المجمع اللغوي هو دور شعبي يتمثل في دعم حقيقي من رموز المثقفين والكتاب والروائيين، ثم بعد ذلك إيمان من جهة المواطن العربي نفسه بأهمية الحفاظ على حصن اللغة العربية بعيدًا عن الاختراقات، وحينها لا بأس من التساهل في بعض الكلمات، لا أن يصير الأمر موجة عامة كلما طفت كلمة على السطح بلعناها في جوفنا اللغوي؛ فنكتشف مع الوقت أن قاموسنا صار يحمل جنسية أخرى!
تهاني بنت سهل العتيبي
باحثة دكتوراه نحو ولغة
إضافة تعليق جديد