التراث والسياحة الناعمة

 

تُعد السياحة الناعمة أحد المفاهيم الحديثة التي اكتسبت شهرة واسعة في السنوات الأخيرة. يمثل هذا النهج الجديد في السياحة تحولًا مهمًا من السياحة التقليدية إلى نهج أكثر اهتمامًا بالثقافة والتفاعل مع المجتمع المحلي والبيئة. ويستخدم مصطلح «السياحة الناعمة» - خاصة في أوروبا - بشكل مشابه لمصطلح «السياحة المستدامة»، إذ تختلف السياحة الناعمة عن السياحة الجماعية التقليدية التي تركز على الأماكن السياحية الشهيرة والأنشطة الكثيفة. بدلاً من ذلك، تسعى السياحة الناعمة إلى توفير تجربة سفر ترتكز على الارتقاء بالروح والعقل، وتعزز التواصل الثقافي بين الزوار والسكان المحليين، وتسمح بالاستمتاع بالتفاصيل الجميلة والعميقة للمكان.

يشير مصطلح السياحة الناعمة إلى شكل من أشكال السياحة يؤدي إلى التفاهم والاحترام المتبادل بين السياح والمجتمعات المحلية، مما لا يعرِّض الهوية الثقافية للمنطقة المضيفة للخطر، كما تسعى إلى العناية بالبيئة وحمايتها من الأضرار الناجمة عن ممارسة الأنشطة السياحية، فيعطي السائحون الناعمون الأولوية لاستخدام الخدمات المرتبطة بالسكان المحليين، ولا يقبلون المرافق السياحية الكبيرة الضارة بالبيئة. وفي حالة التراث، يشير المفهوم -أيضًا- إلى القوة الناعمة التي يمتلكها التراث من خلال السياحة في تفاعل المسافرين مع الثقافة والبيئة والمجتمعات المحلية في الوجهات التراثية التي يزورونها، مما يعني أن السياح يشاركون بشكل أعمق في الحياة المحلية، ويساهمون في تعزيزها.

تهدف السياحة الناعمة إلى توفير تجربة سفر ذات قيمة مضافة، ليس فقط للسياح، ولكن للمجتمعات المستضيفة أيضًا، من خلال تحقيق التوازن بين تلبية احتياجات ورغبات السياح وبين الحفاظ على الثقافة والبيئة المحلية، حيث يمكن للسياحة الناعمة أن تسهم في تعزيز التنمية المستدامة وتحقيق فوائد طويلة الأمد للمجتمعات المحلية والسياح على حدٍ سواء. فهي تشجع السياح على الاستفادة من المنتجات والخدمات المحلية، مما يدعم الاقتصاد المحلي وتخفيف الضغط على الموارد، وتعزيز قطاعات متعددة مثل الزراعة، والحرف التقليدية، والفنون، كما تعزز حفظ وتقدير التراث الثقافي والتقاليد المحلية من خلال التفاعل مع السكان المحليين والمشاركة في فعاليات تقليدية.

تمثل السياحة الناعمة نهجًا أكثر ملاءمة للحفاظ على الثقافات والبيئات المحلية، ويُشكِّل التواصل الثقافي المباشر مع السكان المحليين وفهم عاداتهم وتقاليدهم جزءًا مهمًا من السياحة الناعمة. يمكن لهذا التواصل أن يفتح آفاقًا التفاهم والصداقة بين الثقافات المختلفة؛ فالسياحة الناعمة توفر تجارب سفر أصيلة وفريدة وتفاعلية، تسمح للسياح بالتعرف على الثقافة والحياة المحلية بشكل أعمق، بدلاً من التركيز على النشاطات السطحية والسريعة والجوانب الترفيهية، وتشجيعهم على تقليل تأثيرهم البيئي واحترام العادات والقيم المحلية، وهو ما تركز عليه سياسات الحفاظ على التراث. وكون السياحة الناعمة تحترم الثقافة المضيفة، ولا تعتمد على البنية التحتية كثيفة التكنولوجيا، فهي تعتمد على الأنشطة القائمة على الطبيعة (المشي لمسافات طويلة وركوب الدراجات والسياحة البيئية والرياضات المائية والبرية) والأنشطة المتعلقة بالموارد الثقافية المحلية، مثل زيارة الأشياء المادية للتراث الثقافي (المباني والأشياء الفنية الشعبية والأزياء والطعام والشراب) أو الاستمتاع بالثقافة غير الملموسة وتعلمها (التقاليد والعادات والحكايات والأغاني والرقصات وفعاليات الطهي التقليدي والحرف اليدوية). بالإضافة إلى ذلك، تستخدم معظم أشكال السياحة العلاجية بعض موارد العلاج الطبيعي بشكل يتماشى تمامًا مع فكرة السياحة الناعمة (المياه الحارة والكبريتية، الهواء النقي، الطين المعدني...) جنبًا إلى جنب مع الاسترخاء والغذاء الصحي لإنتاج تجربة علاجية استثنائية. وبالمثل، تعتمد السياحة الريفية أيضًا على الموارد الطبيعية (المناظر الريفية، وثراء عالم النبات والحيوان، ونمط الحياة والثقافة الريفية)، والتي يمكن أن تستوعب بشكل جيد توق السائح الناعم إلى تجربة ثرية وممتعة.

د. ياسر هاشم الهياجي

كلية السياحة والآثار

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA