الطائف .. مدينة مبدعة

 

لطالما كانت المدن على مرّ التاريخ أماكن حقيقية للإبداع، ومنصة محورية للثقافة وتحديد الهوية. والمدن الإبداعية ظاهرة تنتمي لكل عصر، ويزخر التاريخ بنماذج من المدن المبدعة التي كانت تُعنى بالثقافة والعلم والفنون، استقطبت ذوي العقول من الفنانين والفلاسفة والمفكرين وجذبت إليها أصحاب المواهب، كما كانت عليه أثينا في العصور القديمة، وفلورنسا مدينة الفنون في عصر النهضة. كما عُنيت مدنًا في الماضي بالصناعات الثفافية كصناعة السينما في هوليود، ونضيرها الهندي بوليود في بومباي، والموسيقى في ممفيس، والأزياء في باريس وميلانو. واشتهرت بعد ذلك تورنتو بصناعة الوسائط المتعددة، واوستِن ومانشستر بالموسيقى الحية، وهامبورج حيث الميديا وصناعة التسلية.

وفي عام 2004 عاد الحديث عن المدن المبدعة، وضرورة إعادة تصوُّر المدن من حيث مقوّماتها الإبداعية عن طريق تأسيس «شبكة المدن المبدعة» التابعة لليونسكو، والتي انضمت إليها حتى اليوم 350 مدينة، تنتشر في أكثر من 100 دولة، تتخصص في سبعة مجالات: الحِرَف والفنون الشعبية، التصميم، السينما وصناعة الأفلام، فن الطهي، الأدب، الموسيقى، والفنون الرقمية. ومن المرجح أن يستمر هذا الرقم في الارتفاع، مع الأخذ في الاعتبار الإمكانات الهائلة للإبداع كعامل استراتيجي للاقتصاد المثمر والتنمية المستدامة، وتحقيق جودة الحياة والأنسنة في هذه المدن.

تلتزم المدن الإبداعية من خلال انضمامها إلى الشبكة بتقاسم أفضل ممارساتها لتعزيز إنتاج الأنشطة والسلع والخدمات الثقافية المختلفة والترويج لها، وتنمية مراكز الإبداع والابتكار وتوسيع الفرص المتاحة للمبدعين والمهنيين في القطاع الثقافي، وتطوير الشراكات التي تدعم الإبداع والصناعات الثقافية. لا سيما إذا ما علمنا أن الصناعات الثقافية والإبداعية أصبحت من بين القطاعات الأسرع نموًا في العالم، إذ باتت -بحسب إحصاءات منظمة اليونسكو- تحقق عائدات سنوية تبلغ نحو 2250 مليار دولار، وتولِّد 30 مليون وظيفة، وتُسهِم بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

ولدى المملكة العربية السعودية مدن إبداعية تُعدّ نماذج مثالية لمفهوم المدينة التي يتوفر فيها عددٌ من العوامل الجمالية والحضارية والثقافية التي تميزها وتجعلها استثنائية. وقد تم تسجيل ثلاث مدن إبداعية في هذه الشبكة. كان أولها مدينة الأحساء عام 2018 في مجال الحِرف والفنون الشعبية؛ نظرًا لما عُرفت به من صناعات وفنون تقليدية كحياكة البشوت والفخار والسدو والسجاد والتطريز وأشغال الخشب وصياغة الذهب وغيرها. ثم انضمت مدينة بريدة في عام 2022 كمدينة إبداعية لفن الطهي؛ لتميزها بالأطباق المحلية والثقافة الغذائية والوصفات القديمة. ومؤخرًا أعلنت اليونسكو خلال احتفالها باليوم العالمي للمدن في 31 أكتوبر 2023 عن إدراج مدينة الطائف على قائمة «المدن المبدعة» في مجال الأدب، وهو لقب تستحقه الطائف عن جدارة، لتاريخها الريادي الطويل في المجالات الأدبية والثقافية والشعرية والفنية، فقد حملت قلادة الأدب قبل أكثر من 15 قرن، يوم أن كانت سوقًا ثقافيًا للعرب، وملتقىً للتجارة، ولها حضورها في ذاكرة الشعر والفن والفكر والثقافة.

والطائف عروس المصايف، ومدينة الورد، وعاصمة الشعر العربي، وفيها عكاظ أكبر أسواق العرب في الجاهلية والإسلام. قصصها وعراقتها لا تنتهي، وبيوتها القديمة مثقلة بالأصالة، وشوارعها متزينة بالأشجار والظل والورد، وأزقتها مغمورة بالذكريات، وهواءها العليل المدثر بالغيم يبث الإبداع في الصدور.

لقد عملت كثير من المدن على ابتكار رمزًا لها؛ ليكون بمثابة العلامة التجارية التي تميزها، ويساعد على تحفيز الصورة الذهنية للمدينة. في حين تمتلك الطائف رمزًا حافزًا موغلًا في التاريخ، وهو عكاظ سوق العرب الأشهر منذ القدم، والذي تلتف حوله الروايات والقصص والأفكار ويضع الطائف في دائرة الضوء ويسمح بالتفاعل الثقافي منذ عصور ما قبل الإسلام ولا يزال نابضًا بالحياة حتّى اليوم.

د. ياسر هاشم الهياجي

كلية السياحة والآثار

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA