إن النص النظامي ليس كغيره من النصوص غير النظامية، فقراءته والنظرة له تكون مختلفة، لكونه ينظم أمراً معيناً، ويتغيا غاية معينة وضعها المنظم. والنص النظامي يمر بمراحل متعددة (أشبه بالحياكة) حتى يظهر بعد تلك المراحل في صورته الأخيرة. فابتداءً من مرحلة الاقتراح حتى مرحلة النشر، يمر بمراحل مكملة لبعضها البعض، وكل مرحلة تُبنى على التي قبلها حتى يظهر لنا بصورته الأخيرة. وبعد ذلك يصبح نصا نافذا ملزما للجميع، ولا يعتد بجهله بعد نشره، إذ أن مرحلة النشر ترمي إلى الإعلام بالنص والإعلان عنه للعموم. ويتفاوت فهم الأشخاص عند قراءتهم النص النظامي، فكل قراءة تختلف عن الأخرى بحسب غايتها من النص. فعندما يقرأ المحامي نص النظام، فإنه يقرأه من زاوية الدفاع عن موكله (المدعى عليه) بحيث يجعل هذا النص دفعا لموكله، بينما يقابله (المدعي) ويقرأ النص نفسه، ويجعل له حجة قوية تدين (المدعى عليه) ويقيم (المدعي) دعواه، ويدعمها بهذا النص، ثم تنتقل قراءة النص وتفسيره إلى القاضي ناظر الدعوى في المحكمة الابتدائية الذي بدوره يسعى إنزال النص على الوقائع المعروضة أمامه وفقا للمعطيات والمرافعات التي دارت في الجلسة القضائية بين طرفي الدعوى، فيصدر بناء على ذلك حكما قضائيا يمثل فيه فهمه للنص النظامي وتكييفه لوقائع الدعوى ومدى ملائمة إنزال ذلك النص على الوقائع. ثم تنتقل القراءة بعد ذلك إلى قاضي الاستئناف الذي قد يتفق مع قراءة قاضي المحكمة الابتدائية، أو يختلف معه، وعليه يبني حكمه حيال ذلك، وبلا شك ستتضح طريقة قراءة النص من قِبل القاضيين في هاتين المرحلتين من خلال تسبيب الحكم القضائي الابتدائي والاستئناف. ولكن لا يتوقف موضوع قراءة النص عند هذا الحد فحسب، بل سيصعد إلى المحكمة العليا (في بعض الحالات) والتي بدورها قد تنقض الحكم لأسباب (يهمنا منها في هذا المقام) سبب الخطأ في تكييف الواقعة، والذي يترتب عليه تبعا إنزال النص النظامي الخطأ على وقائع الدعوى، وبلا شك أن قراءة المحكمة العليا النص النظامي تُعد أدق قراءة من غيرها، كونها تعتلي قمة التنظيم القضائي، وتُعنى بمتابعة صحة تطبيق القواعد الشرعية والنظامية وتأويلها.
وفي نفس السياق نلاحظ في المجال الجنائي مثلا أن (التوسع في التجريم) يُعد صورة من صور القراءة الخاطئة للنص، المنظم يضع نصا معينا يتغيا منه غاية معينة، بحيث أن كل جريمة -بحسب وقائعها- يقابلها عقوبة محددة لها، ولكن البعض قد يجانب الصواب في فهم النص في جانب الصواب في التعامل معه، فيجعل من وقائع الجريمة البسيطة ما يوجب إيقاع أعلى العقوبات دون مراعاة تدرج النص الجنائي في درجات العقوبات التي وضعت بحد أدنى وحد أعلى تماشيا مع جميع فرضيات وحيثيات ووقائع الجريمة. ومن زاوية أخرى لو نظرنا إلى قراءة الشخص العادي النص النظامي، نلاحظ أنها قراءة مجردة محايدة، فهو يقرأه ويفهمه كما هو بدون تأويله لمعان أخرى، ويكيف الوقائع وينزلها على النص بصيغة مجردة بسيطة.
ولا يخفى على مطلع جهود بعض المختصين في استنطاق وقراءة إرادة المنظم من خلال النص النظامي، وفهمهم لغاية ذلك النص وعليه يبنون النظريات والشروحات المتعلقة بالغاية الأساس لذلك النص، فالأصل أن المنظم عند إصداره للنص النظامي يصدره بصيغة واضحة ذات مصطلحات صريحة لا يشوبها ما يؤثر على قصد النص، ولا تكون مخلة بالمعنى المقصود أو مؤثرة على الغاية المنشودة، كما أنها لا تكون قابلة للتأويل والاحتمال.
وبالنظر فيما سبق وتأسيسا عليه، فلا ضير من وجود تلك الاختلافات حيال قراءة النص النظامي فهو أمر طبيعي ووارد، ولا يؤثر على أي إجراء يتعلق به النص النظامي، كما أن هذا الاختلاف هو أمر عارض، وسينتهي ويزول أمام قوة النص النظامي.
عمر الشهري
كلية الحقوق والعلوم السياسية
إضافة تعليق جديد