د/ أحمد بن حامد الغامدي
(معرض الرياض للكتاب) بدأ لأول مرة في عام 1398هـ (1978م) في رحاب جامعة الملك سعود وبعد سنوات من الانقطاع عن إقامة هذه الفعالية الثقافية والحضارية الكبرى على أرض الجامعة تم العام الماضي إعادة اختيار الجامعة لاحتضان مهرجان الكتاب الدولي ولهذا نشرت السنة الماضي مقالا حمل عنوان (الجامعة والكتاب .. مسيرة متقاطعة). لقد كان المدخل المطول لذلك المقال استعراض العلاقة بين الجامعة والكتاب والمطبعة من خلال استقراء علاقة الكتاب بأهم وأشهر الجامعات في العالم: جامعة هارفرد الأمريكية (مكتبة تحولت إلى جامعة) وجامعة أكسفورد البريطانية (جامعة تحولت إلى مكتبة) وجامعة السوربون الفرنسية (جامعة تحولت إلى مطبعة). وهنا مرة أخرى أستعير من ذلك المقال عبارة المفكر الأسكتلندي توماس كارليل (أعظم جامعة على الإطلاق هي مجموعة من الكتب) وهذا ربما يسوغ لنا اختزال الجامعة بأنها (المكتبة المركزية) لأنها القلب النابض لأي حراك ثقافي أو أكاديمي.
ونحن في سياق علاقة الكتاب بالجامعات والمكتبات المركزية أو المكتبات العامة لا يمكن أن نغفل أن المكتبة المركزية لجامعة الملك سعود (مكتبة الملك سلمان حالياً) كانت إحدى المراحل المفصلية في تاريخها عندما قام المؤرخ والأديب الكبير خير الدين الزركلي بإهداء مكتبته الضخمة لجامعة الملك سعود وبعد ذلك بعقود من الزمن قام علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر بنفس هذه اللفتة ذات الدلالة. وهذا يقودنا للحديث إلى دور (المكتبات الخاصة) وكيف أنها قد تكون النواة لأكبر وأهم المكتبات تأثيرا في مسيرة البشرية في العصر الحديث. فهذه مكتبة الكونجرس الأمريكية أكبر مكتبة في العالم والتي تحتوي 32 مليون كتاب كانت نواتها المكتبة الشخصية للرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون والتي كانت تبلغ حوالي 6487 كتابا. وعلى نفس النسق نجد أن المكتبة البريطانية ثاني أكبر مكتبة في العالم والتي تحتوي على أكثر من 13 مليون كتاب كانت بدايتها هي مجموعة الكتب الخاصة بالملك الإنجليزي جورج الثالث والتي يصل عددها إلى حوالي 65 ألف كتاب.
في محيطنا العربي نجد أن (دار الكتب المصرية) ربما تكون هي أول مكتبة عامة بمفهومها الحديث تنشأ في العالم العربي وفي ضوء ما سبق الإشارة إليه من تاريخ مكتبة الكونجرس والمكتبة البريطانية لن نستغرب كثيرا أن نعلم أن بواكير هذه المكتبة تمت بجهود شبه شخصية حيث كان أول موقع لما كان يسمى قديما (الكتب خانة الخديوية) وحالياً (دار الكتب والوثائق القومية) هو الطابق الأول بسراي الأمير مصطفى فاضل كما يجب ألا نغفل دور الكاتب ورجل الدولة علي باشا مبارك في تجميع الكتب لهذه المكتبة من جميع أنحاء مصر المحروسة. وفي واقعنا المحلي ربما تكون أعرق وأقدم المكتبات العامة هي مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة وهي خزانة الكتب التي أنشأت بالقرب من المسجد النبوي الشريف قبل 171 سنة على يد السيد الوجيه عارف حكمت الملقب بشيخ الإسلام الذي يرجع نسبه إلى الأشراف والمولود في إسطنبول وأغلب الرحالة العرب الذين زاروا المدينة المنورة أشادوا بهذه المكتبة الفريدة في التاريخ العربي الحديث.
المكتبة عندما تصبح رصيدا ماليا للورثة
قد يكون التعميم خاطئا، ولكن لن أتحرج بأن أقول بأن أغلب المكتبات العامة العريقة خرجت من رحم المكتبات الشخصية والمنزلية وبما أننا في أجواء معرض الرياض الدولي للكتاب وأنا حاليا أكتب من داخل رحاب جامعة الملك سعود وعلى مقربة من مكتبتها المركزية والتي تحتوي العشرات من (المكتبات الخاصة). لذا لعله من هذا التمازج بين مهرجان الكتاب وقربه من المكتبة العامة بالجامعة المحتوية على لفيف من المكتبات الخاصة، لعله من الملائم في هذه الأجواء تحفيز القارئ الكريم أن يشجع نفسه وأقاربه وأطفاله في الشروع بتكوين (نواة) لمكتبة خاصة يكون حجر الأساس لها الكتب المشتراة هذه الأيام من معرض الكتاب.
للأسف الكل يشهد في السنوات عزوفا ملحوظا عن مصاحبة الكتاب الورقي والاكتفاء بالمطالعة المتقطعة والسطحية من خلال شاشات الجولات والأمر المحزن كذلك أن شرائح منا بدأ ترتكب خطيئة التخلص من المكتبة المنزلية بحجة أن الوصول للمعلومة أصبح قريب المنال وعند طرف أصابعنا على شاشة الأجهزة اللوحية الإلكترونية. وعليه فيما يتبقى من هذا المقال سوف نستعرض نماذج من رواد الأدب والفكر ومشاهير الأمراء والأثرياء الذين ليس فقط كانوا من عشاق القراءة، ولكن كان لهم كذلك شغف عجيب في جمع واقتناء الكتب وتكوين المكتبات الخاصة الهائلة والحافلة بأمهات الكتب. ونحن في هذا الاستعراض للمكتبات المنزلية الزاخرة لهؤلاء العشاق للكتب نستلهم المقولة الحكيمة للأديب المصري (الدكاتره) زكي مبارك عندما يقول (أنا أتحدث كثيرا عن مكتبتي في مقالاتي وليس الغرض هو الزهو بمكتبة فيها نحو عشرين ألفا من المجلدات وإنما الغرض هو أن أخلق عند قرائي ذوق المكتبة).
هذا الزخم الوافر من الكتب والاطلاع المتنوع على أمهات الكتب والموسوعات المعرفية هو ما يعطي التميز لبعض الأدباء والمفكرين والباحثين مثل (الدكاتره) زكي مبارك الحاصل على ثلاث درجات دكتوراه من جامعات مختلفة. وفي المقابل الأديب العملاق عباس محمود العقاد لم يكن لديه إلا شهادة الابتدائية، ولكنه مع ذلك من أكثر المفكرين العرب ثقافة وغزارة إنتاج بسبب عشقه الدائم للقراءة وبفضل مكتبته المنزلية العامرة والتي تبلغ حوالي 35 ألف كتاب. ومن المعلوم أن العقاد كان يعيش لوحده في شقة من خمس غرف كبيرة حولها بالكامل إلى مكتبة ضخمة والجدير بالذكر أن المكتبة المنزلية المشهورة للعقاد التي كان يقيم فيها (صالون العقاد) هي المكتبة الثالثة في حياته فقد سبق ذلك خسارته لمكتبتين عندما سجن وعندما أضطر للإقامة لعدة سنوات في منفاه في السودان. وفي واقعنا المحلي توجد للشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري مكتبة منزلية ضخمة وهي الأخرى المكتبة الثالثة في حياته ففي خلال رحلته في الحياة كانت تمر على ابن عقيل الظاهري صعوبات مالية يضطر فيها لبيع أجزاء من مكتبة كما حصل عندما باع كتبة أولا لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة ثم بعد ذلك بسنوات باع مجوعة من نوادر كتبه إلى مكتبة الملك فهد الوطنية ومع ذلك ما زالت مكتبته اليوم عامرة وزاخرة بالكتب متعة الله بالصحة والعافية في أحضان الكتب.
وعلى طاري ذكر بيع الكتب والمخطوطات النادرة بهدف الحصول على السيولة المالية لتغطية مصاريف الحياة فقد ذكرت كتب التاريخ مثل البداية والنهاية لأبن كثير وكتاب أعيان العصر لصلاح الدين الصفدي، ذكروا كثرة الكتب التي كان يمتلكها الأمام ابن القيم الجوزية وأنه تفرد على السلف والخلف بعادة اقتناء الكتب وتجميعها. وما يهمنا هنا مقولة ابن كثير أن أولاد ابن القيم بعد وفاته ظلوا دهرا طويلا يبيعون من كتبه وكذلك تذكر كتب التاريخ أن أرملة القاضي الأكرم جمال الدين القفطي ظلت تبيع من كتبه النفسية لمدة 16 سنة بعد موته. وهذه عادة معروفة عند أغلب الورثة أنه لا يكون لديهم نفس شغف والدهم في اقتناء الكتب ولهذا يسارعون في تحويل (خزانة الكتب) إلى (خزنة نقود). ولهذا بعض من يعشق جمع الكتب عندما يسمع بأن أحد الوجهاء ممن لديه مكتبة عامرة توفي نجد البعض يبادر بالاتصال بورثته كي يحجز كتبه ويطلب شرائها قبل أن تتبعثر وتفقد كما حصل لمكتبة العقاد الهائلة.
ومن طريف ما يمكن ذكره فيما يتعلق بشراء مكتبات الوجهاء والأدباء من ورثتهم بعد وفاتهم أن أحمد زكي باشا شيخ العروبة وأحمد تيمور باشا كانا فرسي رهان في شراء الكتب وقد جمع أحمد زكي 17 ألف كتاب منها خمسة آلاف مخطوط (هذه المكتبة كانت تعرف باسم: الخزانة الزكية) وجمع أحمد تيمور 12 ألف كتاب منها سبعة آلاف مخطوط. وبسبب التنافس بينهما في جمع الكتب يقال إنهما كانا يقرآن كل يوم عامود الوفيات بالصحف اليومية فإذا أطلعا على خبر نعي لعالم أو أديب ذهبا للعزاء فيه وأسرعا فاشتريا مكتبته ودفعوا فيها مبلغ مجزي من المال. وكان يساعدهم في شراء الكتب بعض الوراقين وباعة الكتب وكذلك كان لهما من يسافر إلى أوروبا وتركيا من أجل تصوير المخطوطات النادرة. والغريب في الأمر أنه في الزمن المعاصر وفي واقعنا المحلي توجد قصص مشابه حيث إن أشهر شخصين في المملكة في الوقت الحالي في تجميع الكتب وتكوين مكتبة منزلية ضخمة هما معالي الشيخ صالح آل الشيخ وفضيلة الشيخ عبدالكريم الخضير ويتم تداول أخبار طريفة عن تنافس الشيخين في اقتناء الكتب النادرة. وبالمناسبة الشيخ صالح آل الشيخ ممن كان يحرص على شراء المكتبات الخاصة للعلماء الكبار فهو قد حاز أغلب المكتبة المنزلية للشيخ أحمد محمد شاكر وكذلك اشترى مكتبة الباحث المصري محمد فؤاد عبدالباقي من ورثته.
المكتبة عندما تجتاح المنزل
الوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب عرف بلقب ذي الوزارتين (الأدب والسيف) ولكن الطريف في الأمر أنه قبل أن يولد بخمس سنوات فقط أي في عام 708م هـ توفي قاضي أندلسي كان هو الآخر يحمل لقب (ذا الوزارتين) وهو ابن عباد اللخمي وما يهمنا هنا أن الإمام الذهبي يرجح أن عدد تلك الكتب التي كان يملكها بلغ مائة ألف مجلد ولهذا يرد د في بعض المصادر بأنه (أفرط في اقتناء الكتب حتى ضاقت قصوره). ولا شك أن اقتناء وتخزين مائة ألف كتاب ومجلد في المنزل سوف يؤدي ذلك لمضايقة أهل عاشق الكتب ولذا قد يكون من الحلول شراء أو تأجير منزل خاص ومنفصل لكي يصبح (المكتبة المنزلية) لعاشق الكتب. وفي زمننا المعاصر يوصف الشيخ عبدالله ين سالم البطاطي بلقب (شيخ الكتبيين) حيث إن مكتبته الخاصة يقال إنها تحتوي 100 ألف كتاب مثل سلفه السابق ذي الوزارتين اللخمي ولكن الشيخ البطاطي يفرق عنه بأنه كان يحتفظ بمكتبته العامرة في منزل مستقل بمدينة جدة. وإذا صحت المقولة بأن الشيخ عبدالكريم الخضير مكتبته الضخمة موزعة على ست منازل وليس منزل واحد ولهذا من المحتمل أن العدد الإجمالي لكتب الشيخ هو في خانة مئات الآلاف والعلم عند الله.
وإذا كان الشغف والهمة العالية في اقتناء الكتب قد تقود إلى تكوين مكتبة خاصة (محفوظة) في عدة قاعات وغرف بل ومنازل فكيف سكون حال عاشق الكتب إذا فارق محبوبه لدواعي السفر أو الإقامة في الخارج وهذا يقودنا لتصديق ما ورد في كتب الأدب والتاريخ على حد سواء بأن إمام اللغة مجد الدين الفيروزآبادي صاحب القاموس كان لا يسافر إلا ومعه أحمال من الكتب. وفي منتصف القرن الرابع الهجري كان لأمير مدينة بخارى نوح بن منصور الساماني مكتبة ضخمة لها قصة مشهورة مع الشاب ابن سينا عندما كان يطلب أن يقفل في الليل عليه الباب فيها. وما يهمنا في هذا المساق أنه عندما طلب نوح بن منصور من الصاحب بن عباد الأديب المعروف والوزير في الدولة البويهية أن يقدم إليه لكي يتولى منصب الوزارة في مملكته لم يرغب الصاحب في ترك صاحبه القديم (فخر الدولة بن بويه) ولذا كان عذره أنه لا يستطيع ترك كتبه وأنه حتى يستطيع أن يفعل ذلك يحتاج إلى أربعمائة جمل لحمل مكتبته. وهذا يذكرنا بما ورد في كتاب نفح الطيب للمقري التلمساني أن الخليفة الأموي الأندلسي الحكم المستنصر بالله كان له مكتبه تبلغ 400 ألف مجلد وأنهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها ويبدو أن ذلك عندما انتقل الخليفة الأندلسي من قرطبة إلى قصره الجديد في المدينة الجديدة: الزهراء.
كما هو معلوم عملية نقل الكتب في خزائن الكتب بواسطة قوافل الجمال في القديم قد تعرض الكتب للسرقة بسبب أن اللصوص قد يعتقدون أن خزائن وصناديق الكتب هي حاويات تحمل النفيس من المتاع أو بضائع التجار. وفي الواقع فإن حجة الإسلام أبو حامد الغزالي تعرض للسرقة من قطاع الطريق الذي سرقوا كتبه مع أغراضه عندما كان مع قافلة سفر. ومن أخطار نقل المكتبة الشخصية أثناء السفر تعرضها للحوادث مثل الحريق أو التلف بالغرق إذا كان السفر عبر البحر وهذا ما حصل مع ابن خلدون عندما فقد أهله ومكتبته عندما غرقت بهم السفينة التي كانت تقلهم من تونس إلى مصر وكذلك العالم السوري المعاصر زاهد الكوثري خسر مكتبته عندما غرقت في البحر وهو مسافر من الشام إلى تركيا. ومن هذا وذاك، لعل أسعد عشاق الكتب في القديم الذي لم يكن يخشى على ضياع كتبه أثناء سفره كحال العالم الأندلسي عبدالله السلمي المرسي الذي كان كثير الترحال وكان له عدة مكتبات في بلدان مختلفة ولهذا عندما كان يسافر لم يكن يشغل باله بنقل الكتب واستصحابها معه في السفر لأنه كان يكتفي بما له من الكتب في البلد الذي يسافر له.
وفي الختام أود أن أُذّكر بأن المقصود من سرد بعض أخبار عشاق تجميع الكتب أو (غلاة الكتب كما وصفهم محب الكتب الأكبر الكاتب الموسوعي محمد كرد علي) هو التحفيز والحث على اقتناء الكتب وتكوين مكتبة منزلية ولو مصغرة. يقول الإمام ابن الجوزي (وإني أخبرُ عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب ولو قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر). والمقصود أن الشخص مهما بالغ في جمع الكتب وتكديسها فلن يستطيع في الغالب قراءة أكثر من خمسة أو ستة آلاف كتاب طوال عمره (على افتراض أنه يستطيع أن يقرأ كل ثلاثة أيام كتابا واحدا بغض النظر هل هو مريض أو مسافر أو مشغول). ومع ذلك تكفي أن تكون المكتبة المنزلية تشتمل على عدد محدد ومنتقى بعناية في حدود 300 إلى 500 كتاب وبالمناسبة هذا هو متوسط الكتب الثقافية والأدبية في مكتبة مشاهير الأدباء والمثقفين مثل شاعر النيل أحمد شوقي وشاعر القارة الأمريكية اللاتينية البارز خورخي بورخيس وأقل من ذلك بكثير كانت كتب المكتبة المنزلية لشكسبير.
إضافة تعليق جديد