تظل معرفتنا بأنفسنا قليلة إلى أن يكتشفها الآخر، رغم كوننا أكثر وعيا منه وأكثر إدراكا لحقيقتنا التي نظن أنها غائبة عنا إلا أنها متسربة في داخلنا، أو كما يقول «سيجموند فرويد» إن حياتنا تشبه الجبل الجليدي، خمس وسبعون بالمئة منه يغمره الماء والباقي هو الذي يطفو على السطح، وهل هذا الكم كاف لكي يكتب عنه الأدباء والشعراء وهل هذه الجذوة التي تعطي المبدع طاقته وتصل به إلى حد الانصهار.
إن المبدع «هو الشخص الوحيد الذي استطاع أن يصغي إلى اللاشعور» ولقد كان لظهور علم النفس ونظرياته أثر على سبر كثير من أغوار النفس البشرية باعتبارها من أعقد ما يمكن التعامل معه، ويتضح وجه التشابه بين علم النفس والأدب من خلال التعامل مع السلوك الإنساني في كل مستوياته، وقد أخذت دراسات الإبداع مجالا مخصصا من مجالات علم النفس وأصبحت كتابات الأدباء والشعراء مجالا خصبا ومتنفسا لما لا يستطيع الإنسان أن يقوله.
وقد ساهم ظهور مدرسة التحليل النفسي في إضافات كثيرة في مجال الأدب، إلا أن الفضل يرجع لمؤسس مدرسة التحليل النفسي «سيجموند فرويد» فقد كان مثيرا في تحليلاته ودراساته حول السلوك الإنساني وقد استفاد هو شخصيا منه فقد اطلع على الآداب الكلاسيكية والتاريخ والدين والفلسفة مستفيدا منها بوضع مصطلحات لا توجد إلا في مدرسته.
وقد قال في خطاب له أثناء احتفاله بعيد ميلاده السبعين باعتباره المكتشف الأول لعالم اللاشعور فأنكر على نفسه قائلا إن الفضل يرجع إلى الشعراء والأدباء في الكشف عنه، وقد استفاد هو من مفهوم «التطهير» في الأدب واستخدمه في العلاج النفسي على طريقة التداعي الحر، بالرغم من أن أرسطو كان أول من استخدم مفهوم التطهير وقال عنه بأنه انفعال يوحد بين أفراد الجمهور في مشاركته الوجدانية في الآلام والمعاناة كما يحدث أثناء قراءة قصيدة أو رواية حين يتوحد قارىء العمل منشئا مشاركة مع شخصية البطل أو المؤلف.
إن رأي فرويد ينطوي على أن الفنان في الأصل شخص تحول عن الواقع لأنه لم يستطع أن يتلاءم مع مطلب الإشباع الغريزي، فأطلق كامل طاقاته ورغباته المكبوتة ومطامحه في عالم الخيال، ثم وجدت طريقا للعودة من عالم الخيال إلى الواقع لتظهر في العمل الأدبي، أي أنه استخراج من اللاشعور، فالإبداع والفن إرواء لحالات مكبوتة، ولكنه بالغ بشكل كبير حول دور طاقة «اللبيدو» وكيف يكون الإبداع ناتجاً عن التسامي عنها نتيجة الصراع، ولكنه ميز بين الفنان والعصابي واعتبر الفنان قادراً على التخلص من عالم الخيال ليتصل بالواقع.
ويظل السؤال قائما «لماذا نبدع؟» هل هي نزعة فطرية للحصول على اللذة من خلال ممارسة الفنون، أم رغبة في الخلود وتأكيد الذات، أم محاولة للتخلص من حالة التوتر التي أحدثتها التجربة، ففي حالة الإبداع يعاني المبدع أقصى درجات التوتر خلال عملية الخلق الفني وتؤدي فوضى الانفعالات إلى عدم الاستقرار.
يقول «فان جوخ» واصفاً حال المبدع: «شخص يتآكل قلبه من فعل ظمئه الشديد». ويقول «ورد زورث» «إن الشعر تعبير عن انفعال مستعاد بهدوء تظهر فيه غريزة إظهار النفس وهذه الغريزة تنشأ عن التعاطف والمتعة بإنشاء شيء جديد».
بيد أن فكرة الانفعال من وجهة نظري يجب أن تكون مشروطة، فالانفعال الحاد يعمل على كف الأفكار والعجز عن الوصول إليها لأن زيادة الدافع ونقصانه صنوان لما يمكن أن يؤديا إليه. يقول «بيكاسو» الفنان وعاء مليء بالانفعالات التي تأتيه من كل المواقع؛ من السماء والأرض، ونفاية الورق، ونسيج العنكبوت، وهو يرسم ليخفف من وطأة تلك الانفعالات وازدحام الرؤى».
وعلم النفس لم يكن غائبا عن دراسة سيكولوجية وسلوك هؤلاء المبدعين الذين انصهروا في أعمالهم من خلال منهج السيرة الذاتية وتحليل العمل الأدبي وبعض الطقوس لدى المبدعين، فهذا هيمنجواى كان يبري عشرين قلما قبل البدء في الكتابة، وكافكا كان يلتزم بنوع معين من الحبر والورق، وكافافيس يطفئ أنوار المنزل ويستعين بصف من الشموع يشعلها أمامه أثناء الكتابة.
وقد فسرت هذه الرموز باعتراف الأدباء أنها نوع من التودد أو الاستعطاف النفسي للأفكار، وقد أشرف «شكسبير» نفسه على حالة من الجنون عندما كان يكتب مسرحية الملك «لير» وربما جاءت شخصيته صدى لتلك الحالة، وفي شخصية «هاملت» دلالات كثيرة على شخصيته أي أنه لم يضع على لسان أحد أبطاله بقدر ما وضع كلامه على لسان «هاملت».
وقد قام أحد علماء النفس بدراسة حول تطور لوحة «الجرنيكا» لبيكاسو، والتي اعتبرها النقاد ملحمة بشرية لإنسان القرن العشرين، ودرس مسودات واسكتشات اللوحة قبل الرسم وتوصل إلى إحدى وستين مسودة؛ أربعة وخمسون منها لبعض أجزائها أما السبعة فكانت تمثل الرسم كاملا في مراحله المختلفة، وبذلك تم التوصل إلى المراحل التي يمر بها العمل الفني لكي يصل إلى الشكل الذي يرضاه المبدع من استعداد وتهيؤ واختمار وتحقيق فعلي، وقاموا بدراسة كل مرحلة وخطورة كل منها على العمل الإبداعي، وتبين أن هناك خطراً شديداً على مرحلة التحقيق النهائي مثلا وهو سيطرة الخبرات السابقة أو القراءات والمناقشات وهو ما أطلق عليه النقاد خطأ اسم السرقات الأدبية.
إضافة تعليق جديد