ثمّة شخصيات تعجز الذاكرة عن محوها، وإن نأت بهم الجغرافيا وباعد بينها الزمان ، بل وتظل مكانتها باقية في القلب كالنقش. عمر حسن شاب فارع الطول -تبارك الله-، ضاحك القسمات، من ضفاف نهر النيل بشمال السودان. جاء إلى العاصمة الرياض -يحمل معه زادًا من «الكابيدة» 1، ومضمَّخ برائحة «الجروف»2 و «طين البحر»3 كما يسمونه في منطقتهم- متعاقدًا مع صحيفة «رسالة الجامعة» بشهادة خبرة واسعة اكتسبها من العمل بوزارة الإعلام السودانية. ويحمل خبرة متراكمة في التصوير والتعامل السلس والمُتقن مع محاليل تحميض الأفلام «أبيض وأسود» حينها، وتظهيرها وتجفيفها وتثبيتها في معمل التصوير. التحق عمر بالصحيفة وهي لا تزال وليدة تحبُو في عامها الثالث 1398هـ، فعاصر مرحلة تأسيس قسم التصوير وتطويره، وتوسيع نشاط المعمل ؛ليخدم الصحيفة وعددا من كليات الجامعة وإداراتها، وكان العتيد عمر ـ كما كان يسميه زميله مصور الصحيفة والجامعة الراحل جمال إسحاق رحمه الله ــ مثالًا في التفاني والإخلاص، مُعتبرًا رسالة الجامعة بيته الثاني، يؤدي واجباته وخدماته حتى مُنتصف الليل وإلى ما بعد صلاة الفجر، تصويرًا وتحميضًا وتنظيمًا وتوثيقاً.
صار عمر رقمًا مُهمًّا ضمّن قائمة جيل الأوائل الذين كان لهم الفضل ـ بعد الله ـ في منظومة العمل الصحفي التي حققت نجاحات بارزة على مستوى قسم الإعلام والكلية، وأثبتت رسالة الجامعة بقوة أنها واجهة إعلامية للجامعة، وقناة اتصال بين إدارتها ومنسوبيها طلابًا وأساتذة وموظفين فيما يسمى بالإعلام ذي الاتجاهين، ووسيلة تواصل مع المجتمع الخارجي وقطاعاته المختلفة.
شكل عمر سندًا قويًّا للمصور جمال -رحمه الله-، إلى درجة أصبحت فيه الصورة الفوتوغرافية تنافس الخبر التحريري، وربما تتفوق عليه، وحرص ضمن مهماته الرسمية على توثيق مناسبات الجامعة بالصورة، وأرشفتها بالتعاون مع أمين مركز المعلومات، ثم تولى مسؤولية المركز كاملة بعد إنهاء خدمات زميله أمين المركز عام 1409هـ ، وأضاف إلى هذه الوظائف المشاركة في تدريب طلاب التخصص بقسم الإعلام على فنون التصوير والتحميض، بل وكان يحمل الكاميرا أحيانًا لمساعدة زميله جمال في تغطية العديد من الفعاليات بإدارة الجامعة؛ لتغطية المناسبات الرسمية والأنشطة الطلابية الكبرى. وفي نهاية عام 1412هـ انتقل إعداد الصحيفة وإخراجها من النظام اليدوي التقليدي إلى التقني عبر الحواسيب، فاقتحم عمر هذا المجال الحديث حتى أصبح ماهرًا وبارعًا في إدخال المعلومات والصور واستخراجها وتحويلها آليًّا عبر جهاز الماكنتوش «برنامج نايسس» إلى قسمي الإخراج والإعلان، إضافة إلى ذلك كان يستقطع جزءً من وقته للمساعدة في الأعمال الإدارية الأخرى، إلى أن غادر الصحيفة في حفظ الله عام 1421هـ، عائدًا إلى وطنه السودان؛ لكنه لم يغادر قلوبنا، ولم ينقطع تواصلنا على الإطلاق ولله الحمد.
وبعد أكثر من عشرين عامًا على مغادرته تلقيت الأسبوع الماضي اتصالاً من ابنه المهندس عبدالرحمن يخبرني أن والده الآن في الرياض بتأشيرة زيارة وعمرة، ويسره أن يلتقي بك، أسعدني هذا الخبر حقًّا، وبالفعل سجلتُ زيارة إليه في منزل ابنه الذي بدا لي من أول وهلة أنه عامر بأهله وضيوفه، ويفيض أريحية وكرمًا وطيبة، وقد اكتظ بالقادمين للسلام على عمر، ثم جلست بجانب المُحتفى بوصوله أتسامر معه، ونتجاذب أطراف الحديث عن السودان وأخباره وحياة شعبه، ثم عادت بنا الدردشة إلى الجامعة وطلابها وأساتذتها وعمداء كلياتها، وأحداثها المهمة التي عمل عمر على توثيقها وأرشفتها قبل التحاقي بالصحيفة، وقد اطلعت عليها لاحقًا في أرشيف الرسالة.
كانت جلسة عامرة بالذكريات واستدعاء المواقف، وأخبار المشرفين والزملاء الذين عملوا بالصحيفة في فترات متتابعة، ومنهم من تقاعد، ومن رحل عن دنيانا -رحمهم الله-، ومنهم من عاد إلى بلده، ثم ضرب ثانية في مناكب الأرض بحثًا عن الرزق وحياة أفضل.
الشكر كله لله وحده الذي يسَّر لي فرصة لقاء أخ عزيز ودود سمح الطباع بعد أكثر من عقدين من الزمان، وأجزل الشكر لابنه المهندس عبدالرحمن الذي أكرمني بالدعوة لاستردَّ مع عمر بعض إنجازات الفترة الذهبية التي ارتقت بالصحيفة إلى مكانة عالية بين الصحافة الجامعية المحلية والعربية. وتبقى ذاكرة صحيفة «رسالة الجامعة» حية نشطة، لا تنسى مؤسسيها والمخضرمين والمميزين الذين عاصروها وتفانوا في الارتقاء بسمعتها الإعلامية والصحفية، وعمر حسن الصامت العتيد أحدهم، ولا من تخرجوا من أقسامها تعليماً وتدريبًا وإعدادًا من طلاب الإعلام الذين تسلموا ويتسلمون الآن مواقع رفيعة في الصحف والفضائيات.
1ـ الكابيدة: عبارة عن وجبة محلية من القمح
2ـ الجروف: عبارة عن منطقة قريبة من النيل يزرع فيها بعد نزول النيل
3ـ طين البحر: التربة القريبة من مياه النيل
عبدالله بن عبدالمحسن الفليج
مدير إدارة رسالة الجامعة
إضافة تعليق جديد