جاءت الشريعة الإسلامية بمنظومة تشريعية متكاملة استغرقت تنظيم شؤون الحياة وتعاملاتها، وأرشدتنا إلى النهج القويم والطريق الصحيح إلى الحياة الآخرة، وانطلاقا من تلك المقاصد صانت الشريعة الإسلامية الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، إذ أعطت هذه الضروريات أهمية بالغة، فحرمت الاعتداء عليها أو إلحاق الضرر بها بغير مسوغ مشروع.
وعليه، ولما للنفس من أهمية، ولما قد يصيب الجسد من أمراض أو أعراض تستدعي التدخل الطبي للتداوي؛ حرص الفقه الإسلامي ومن بعده القوانين الوضعية على تنظيم التدخل الطبي الذي يحصل به تداوي ذلك الجسد وعلاجه، ذلك أن مهنة الطب مهنة إنسانية في المقام الأول، لكن ممارستها محفوفة بكثير من الإجراءات المعقدة والاحتمالات الخطرة، وذلك لأن الخطأ فيها تترتب عليه نتائج مباشرة تمس حياة الإنسان، وينطوي على طلب التداوي نتيجة إيجابية أو سلبية، وقد تفضي بعض النتائج إلى الإضرار بالحياة عند وقوع بعض الأخطاء الطبية، ومع التطور المتسارع في مجال العلوم الطبية، زادت المخاطر التي قد تلحق بجسم الإنسان وسلامته.
إن حماية الإنسان وسلامته المعنوية والمادية تتضمن حماية حقه في الحياة على أساس أن أي مساس أو اعتداء يهدد الحد الأدنى اللازم لاستمرار هذه الحياة يقع تحت طائلة القانون، فتَقَدُّم العلوم الطبية يجعل من مسؤولية الطبيب أمرا بالغ الأهمية والخطورة، خاصة في حالة عدم الشفاء أو إحداث مضاعفات من شأنها المساس بسلامة الإنسان، وهنا يُثار التساؤل: هل الطبيب مطالب ببذل عناية فقط أم أنه ملزم بتحقيق نتيجة؟
من المستقر عليه فقها ونظاما أن التزام الطبيب هو التزام ببذل العناية اللازمة والضرورية للمريض، وليس ملزما بشفاء المريض بعد بذل الأسباب المطلوبة للتداوي؛ لأن الشفاء من الله -عز وجل-. كما يُعد التزام الطبيب ضمن التشريعات والتعليمات الطبية التزاما ببذل العناية والجهود الصادقة واليقظة المتفقة مع الأصول العلمية والعملية المقررة، وهي من الأصول الطبية الثابتة والمستقرة علميا والمتعارف عليها نظريا وعلميا بين الأطباء، ويجب أن يلم بها ويراعيها كل طبيب وقت ممارسته للعمل الطبي، ولا يتسامح أهل الخبرة والمعرفة مع من يجهلها من أصحاب المهنة.
وفي ذات الشأن نص نظام مزاولة المهن الصحية «الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/59 وتاريخ 4/11/1426هـ» على أن «التزام الممارس الصحي الخاضع لأحكام هذا النظام هو التزام ببذل عناية يقظة تتفق مع الأصول العلمية المتعارف عليها»، وهذا يعني أن مسؤولية الطبيب تجاه المريض هي مسؤولية عناية، وليست مسؤولية شفاء، على أن هناك حالات استثنائية يقع فيها التزام على الطبيب بتحقيق نتيجة تتمثّل في سلامة المريض وهي، أولا: نقل الدم، إذ يقع على الطبيب التزام يقضي بتحقيق نتيجة تتمثل في سلامة المريض، وذلك بنقل الدم النقي الذي يتوافق مع فصيلة دم المريض، فيجب أن يكون سليما خاليا من الأمراض. ثانيا: التحاليل الطبية، إذْ تُعد هذه التحاليل من العمليات التي تقع على محل محدد تحديدا دقيقا، لذا فإن التزام الطبيب بالنسبة للتحاليل العادية التزام بتحقيق نتيجة وهي سلامة التحليل ودقته. ثالثا: الأدوات والأجهزة الطبية، وذلك خلال قيام الطبيب بمعالجة المريض باستخدام الأجهزة والأدوات الطبية، وعلى ذلك فهو ملزم بسلامة المريض من الأضرار التي قد تلحق به جراء استخدام الآلات والأدوات الطبية أثناء عمليات العلاج أو الجراحة، وضمان الأضرار المقصودة التي تنشأ نتيجة وجود عيب أو عطل بالأجهزة والأدوات المذكورة. رابعا: تركيبات الأعضاء الصناعية، وتثير عملية تركيب الأعضاء الصناعية المسؤولية الطبية من جانبين: جانب طبي يتمثل في مدى فاعلية العضو الصناعي وتناسبه مع حالة المريض، وهنا يلتزم الطبيب ببذل العناية. والجانب الآخر هو: مدى سلامة العضو الصناعي وجودته، وهذه مسألة تقنية يكون التزام الطبيب فيها بتحقيق نتيجة وهي ضمان سلامة الجهاز أو العضو الصناعي ومناسبته لجسم المريض. خامسا: عمليات التجميل: وهذا النوع من العمليات لا يكون الغرض منه علاج المريض في المقام الأول، بل الهدف المنشود منه غالبا هو إزالة تشوهات في الجسم، فإذا كان التزام الطبيب في هذا المجال يبقى في الأصل التزاما ببذل عناية؛ فإن هذا الالتزام يقترب شيئا فشيئا من الالتزام بتحقيق نتيجة، وهذا ما يمكن أن نسميه «التزام ببذل عناية مضاعفة»، لأنه ليس من المقبول عند المريض أن يذهب للطبيب لعلاج تشوه ما؛ فيخرج بتشوه أخر أو بضرر مستديم، ويكون بذلك لم يحقق النتيجة المرجوة بل قد يفاقم المشكلة الأصل.
ختاما تُعرَّف المسؤولية المدنية للطبيب بأنها: إخلال الطبيب بالتزام يقع على عاتقه بموجب النظام، وينتج عن هذا الإخلال ضرر لشخص آخر، وهذا الضرر يتطلب التعويض لجبره.
عمر الشهري
كلية الحقوق والعلوم السياسية
إضافة تعليق جديد