رسالة الجامعة – أريج السويلم
يجيب الدكتور عبدالرحمن الفهد أستاذ تحليل الخطاب المشارك قائلًا :
إحدى الحوارات التي بقيت عالقة في الذهن أثناء دراسة مادة «اللغة والجنوسة» في مرحلة الماجستير هي عن موضوع «ثرثرة النساء»، وما إذا كان النساء يتحدثن أكثر من الرجال. كانت تجادل أستاذة اللسانيات الاجتماعية في جامعة إسكس آنذاك د. إنعام الور في أن القضية مرتبطة بالصورة النمطية داخل المجتمعات (Stereotype)، أكثر من كونها مستندة إلى بحث علمي بمنهجية صارمة.
«هل يصمت الرجال أحياناً حين يجتمعون في لقاءتهم اليومية بينما النساء لا يتوقفن عن الحديث؟»، لا يبدو الأمر كذلك، ففي إحدى الدراسات الشهيرة حول مدى الصمت المقبول في المحادثة اليومية تشير جيفرسون إلى أن الصمت المقبول داخل المحادثات الطبيعية يصل إلى ثانية واحدة، وما زاد على ذلك فيُعد إشكالية. ولذلك حين يصل موضوعٌ ما إلى نهايته واللقاء مازال مستمراً، فإن الإنسان عادةً -رجلاً كان أم امرأة- يحاول جاهداً ألا يتمكن الصمت من اللقاء، فيتحدث حينها عن الأجواء وتغيرات الطقس، أو ازدحام الطرقات، أو أي قضية عامة قد تشرع أبواباً لموضوعات أخرى أكثر إمتاعاً.
كنت أطرح مثل هذه التساؤلات حول الثرثرة وكثرة الكلام على الطلبة وأجد قبولاً كبيراً لفكرة أن النساء «يثرثرن» أكثر من الرجال، وكنت دائماً أسأل الذين يتبنون هذا الرأي: هل من الممكن أن تجتمع مع أصحابك فينظر بعضكم في عيون بعض دون أن تتحدثوا؟ الجميع يتحدث، لكن الأمر يبدو أنه مرتبط أكثر بمدى أهمية الموضوع أو سخافته للجنس الآخر. ففي حين أن الرجل قد يسخر من موضوع مثل «فستان فلانة في حفلة الزواج» حين يستحوذ على ساعات من أحاديث الفتيات، ويرى أنه موضوع سخيف لا يستحق هذا العناء وطول الكلام، هولا يجد بأساً من انشغاله طوال الليل أو لعدة ليال متصلة حول قرار حكم «الفار» المجحف، حين لم يحتسب ضربة جزاء واضحة للمبصرين.
تشير كثير من دراسات هذا الحقل إلى أن الفروقات اللغوية بين الجنسين أمرٌ مكتسب من خلال المجتمع وليس شيئاً موجوداً أو فطرياً، فالفتاة تتعلم كيف تتواصل أو تتحدث بوصفها فتاة، تماماً مثل تعلمها في بداية حياتها كيف تمشي أو تجلس مثل الفتيات الأخريات. ومنذ أن نشرت روبن لاكوف في السبعينيات دراستها الشهيرة حول لغة المرأة وهيمنة الرجل، والدراسات التي تدور حول الفروقات اللغوية تتزايد بشكل مذهل. ولعل أشهر الملحوظات التي ذكرتها لاكوف مثلاً هي أن المجتمع يدفع المرأة إلى استعمال نسخة لغوية أضعف من الرجل: فالمرأة تكثر مثلاً من استعمال ألفاظ التحوط «نوعاً ما» «يبدو أن»، وهي أكثر استعمالاً لاستراتيجيات التأدب كالطلبات غير المباشرة، وكذا استعمال الأسئلة المذيلة «هذا جميل، أليس كذلك؟». ورغم أن دراستها تعرضت لانتقادات منهجية واضحة كضعف الاعتماد على بيانات كافية تدعم نتائج بحثها، فإنها دُعمت لاحقاً بدراسات اعتمدت على بيانات ضخمة من ثقافات متعددة.
لقد مر الآن على دراستها قرابة نصف قرن والنظريات والدراسات التي تدور حول الفروقات اللغوية تتوسع كل يوم، لكن النقطة المنهجية التي زاد الإيمان بها في هذا الحقل تحديداً وفي اللسانيات الاجتماعية بالعموم أن الادعاءات من خلال النظر والمتابعة لا تكفي للوصول إلى نتائج نثق بها، بل لابد من تسجيل المحادثات ورصد الظواهر التواصلية اللغوية للوصول إلى نتائج مطمئنة. ناقش زيمرمان مثلاً ضحك الرجل والمرأة حين يشتركان في محادثة واحدة، ملاحظاً أن الرجل غالباً حين يضحك فإن المرأة تتبعه بالضحك، وحين تضحك المرأة هو لا يتبعها، وهو أمرٌ يشي بتأدب المرأة ومجاملتها من جهة، وسلطة الرجل من جهة أخرى. لكن جيفرسون حين استعانت بمحادثات مسجلة وجدت إحصائياً أن الفروقات بين الجنسين لا تكاد تذكر، وأن الأمر لا يعدو أن يكون انطباعاً أو صورة نمطية أكثر من كونه حاضراً في المحادثات الواقعية المسجلة.
إن واحدة من أكثر إشكاليات دراسة الجنوسة هي صعوبة افتكاك عامل الجنوسة من العوامل الأخرى المؤثرة في اللغة، كالعمر والمجتمع والإيدلوجيا والعلاقة بين المتحدثين والطبقة الاجتماعية وغيرها من العوامل المتعددة المؤثرة في اللغة. ولهذا الأمر فليس من السهل الاستعانة بإجابة بسيطة مباشرة حول ما يميز لغة المرأة عن الرجل وكأنه شيء ثابت ومستقل، فالأمر أكثر تعقيداً من ذلك. وإذا كانت المرأة كثيراً ما توصف بأنها أكثر تأدباً من الرجل، فإن عدداً من الدراسات أظهرت قسوتها وهيمنتها على المحادثة في سياقات متعددة. أظهرت باجري مثلاً أن المرأة في بعض حلقات البرنامج التلفازي (هي وهو) كانت تقاطع أكثر من الرجل، ووجد كلايمن أن الصحفيات في مؤتمرات الرئيس الأمريكي كن أكثر قسوة من الرجال في صياغة الأسئلة، والانتقادات، وتوظيف الأسئلة المباشرة، والأسئلة التتبعية وغيرها. وهذا الأمر يُظهر أن المرأة في سياقات إعلامية أو برلمانية أو سياسية قد تحاول جاهدة أن تظهر بصورة غير الصورة النمطية المهذبة التي ترسمها بعض المجتمعات.
وبالعموم فهذه إجابة ليست مقتضبة عن لغة المرأة والرجل، فلعلي أتوقف هنا حتى أحافظ على الصورة النمطية المرتبطة بالرجال وقلة الكلام، وحتى لا أوصم أيضاً بالـ»ثرثرة!».
إضافة تعليق جديد