خلّفت البشرية على مر العصور تراثًا ثقافيًا غنيًا يعكس هويتها وتنوعها وتاريخها المشترك، ومع مرور الزمن يتعرض هذا التراث لتحولات وتغيرات متسارعة، ويصبح الحفاظ عليه تحديًا كبيرًا تُنذر بفقدانه إلى الأبد. وهنا يأتي دور ترويض الزمن، الذي يعني منح التراث القدرة على الاستمرار، وإبقاءه حيًا وملائمًا لمتطلبات العصر الحديث.
هذا بالضبط ما نمارسه في إدارة التراث، في تركيزنا على كيفية جعل الماضي من الموارد الدائمة للمجتمعات من خلال تشكيل الماضي للمشهد الحاضر، وفي كيفية استخدامنا لذلك الماضي وفق تفسيرات تخضع للتغييرات المستمرة، والتي يمكن فهمها كنتيجة للتفاعل والتواصل بين مختلف المصالح والأبعاد والأجيال.
يشير مصطلح «ترويض الزمن» إلى الجهود المبذولة للمحافظة على التراث الثقافي وإعادة إحياءه وتطويره وجعله متوافقًا مع احتياجات العصر الحديث ومتطلبات المستقبل، وتحقيق التوازن بين احترام الماضي والابتكار للحاضر والمستقبل؛ ليستمر التراث في الإلهام والإثراء للأجيال القادمة، من خلال تطويره وتكييفه ليلائم تطلعات واحتياجات المجتمعات الحديثة.
في هذا العصر المتسارع، يواجه التراث الثقافي تحدّيات هائلة مثل التكنولوجيا والعولمة والتغيرات الاجتماعية التي تؤثر على طبيعة التراث وأصالته وتهدد بنسيان جوانب هامة منه، وتجعل حمايته وصونه أمرًا صعبًا، فضلًا عن انعكاسات العولمة على توحيد الثقافات، مما يمكن أن يؤدي إلى تلاشي الثقافات التقليدية وتدمير التنوع الثقافي. ومع ذلك، يتحمل الفرد والمجتمع مسؤولية الحفاظ على التراث الثقافي وترويض الزمن ليبقى حاضرًا في حياتنا.
أحد الجوانب الأساسية لترويض الزمن وتجاوز تحديات العصر الحديث، هو الحفاظ على المفاهيم والمعاني والتعابير والممارسات لحماية الهوية الثقافية للأمة، ويشمل ذلك الفنون والموسيقى التقليدية والتراث العمراني والحرف اليدوية من خلال استخدام التكنولوجيا والابتكار، ودعم الفنانين والحرفيين المحليين وتشجيعهم على ممارسة مهاراتهم، وتوفير وسائل جديدة ومبتكرة للوصول إلى هذه الفنون والتفاعل معها؛ لحمايتها والمحافظة على تنوعها وجمالها.
في ذات السياق، سيسمح ترويض الزمن في استثمار التراث الثقافي في تعزيز التنمية السياحية والاقتصادية في المناطق ذات القيمة الثقافية العالية عن طريق استخدام التراث كموروث يجذب السياح عبر عدد من الأنشطة ذات الصلة بالسياحة الثقافية وتنظيم المهرجانات والفعاليات، وتوفير تجارب تفاعلية ومثيرة للزائرين والجمهور، مما يجذبهم للاهتمام بالتراث الثقافي، ويساهم في تعزيز الاقتصادات المحلية.
يلعب التعليم دورًا حيويًا في ترويض الزمن؛ إذ ينبغي تعريف الأجيال الحالية بأهمية التراث الثقافي، وتوعيتهم بأنه جزء لا يتجزأ من هويتهم وتراثهم الشخصي من خلال نشر المعرفة عنه وتضمين موضوعات التراث الثقافي في المناهج الدراسية، وتشجيع النشء والدارسين في مختلف المراحل التعليمية على استكشاف وفهم تاريخهم وتراثهم الثقافي من خلال الأنشطة والمشاريع التعليمية، وتنظيم زيارات للمتاحف والمواقع التاريخية، لتعزيز الوعي بقيمة التراث وأهميته.
ختامًا، على الجميع أن يُدرك أن التراث الثقافي ثروة لا تقدر بثمن، فهو رمز للتاريخ والهوية، ومصدر فخر للأجيال الحالية والمستقبلية، وعلى الجميع أن يتعاون لحماية هذا التراث الثمين وفق وسائل هذا العصر ومتطلباته؛ لبناء جسرًا متينًا بين الماضي والحاضر والمستقبل. فحماية التراث الثقافي ليس فقط واجبًا أخلاقيًا وثقافيًا، بل هو أيضًا استثمارًا في المستقبل والتنمية المستدامة للمجتمعات.
د. ياسر هاشم الهياجي
كلية السياحة والآثار
إضافة تعليق جديد