التراث -بغض النظر عن شكله- ليس مجرد شيءٌ نرثه من الماضي فحسب، بل هو جسرٌ يربطنا بالماضي، ويمتد إلى المستقبل، بكل ما يشمله من دلالات ثقافية ومعرفية وتاريخية يتوارثها أبناء المجتمع أجيالًا بعد أجيال. وعلينا أن نحتفظ به كتلك الأرض التي نرثها ونعيش عليها، ويستحيل أن نفرط بها.. وفي هذا الإرث المتوارث يقول الشاعر العربي عمر بن كلثوم:
وَرَدْنَ دَوَارِعاً وخرجْنَ شُعثاً .. كأمثالِ الرِّصَائِعِ قد بَلَيْنَا
ورِثناهُنَّ عن آباءِ صِدْقٍ .. ونُوْرِثُها إِذا مُتْنَا بنِينا
في التراث كنزٌ لا يُقدر بثمن من القصص والتجارب والأشياء التي قدمها أسلافنا، وله قيمة كبيرة بمعايير علوم الآثار والتاريخ والهندسة المعمارية والأنثروبولوجيا والآداب والفنون، وغير ذلك من العلوم والتخصصات ذات الصلة بالإنسان وتاريخه وثقافته. ويمثل التراث الثقافي أهمية كبيرة لدراسة تاريخ البشرية وفهم تطورها عبر العصور، ويدل الحفاظ عليه على اعتراف ضمني بأهمية الماضي، ودوره في فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل. في التراث الثقافي لشعبٍ ما أو حضارةٍ ما، هو السبيل الوحيد المتاح أمامنا للتواصل مع الماضي الخاص بهذا الشعب، أو تلك الحضارة بما تحمله في طياتها من تجارب ومعارف.
على الصعيدين الشخصي والمجتمعي، يشكل التراث جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وهو ذلك الشيء الذي يبقى عندما ننسى كل شيء آخر، والجزء الأساس الذي يبقى في الإنسان والمجتمع على مر الزمن، وجزءًا لا يتجزأ من أصولنا وقيمنا وتقاليدنا التي تشكل هويتنا. والقيام بمسؤوليتنا تجاه حفظه وتعزيزه ليس مجرد واجب، بل هو استثمار في مستقبل أفضل وتراث غني يمكن أن نفتخر به، ونشاركه مع العالم من خلال نشره، والكشف عن دلالاته وأبعاده، ما يساعد في بناء الجسور بين الحضارات والثقافات المختلفة.
من الجدير بالذكر أن التراث يمكن أن يلعب دورًا هامًا في تنمية السياحة وتنشيط الاقتصاد المحلي، يمكن للمواقع التاريخية والفعاليات التقليدية أن تجذب الزوار، وتوفر فرص عمل للمجتمعات المحلية فضلًا عن المشاريع الثقافية والفنية، وهو ما يسهم في تحسين مستوى المعيشة وتعزيز النمو الاقتصادي.
ووفقاً لمنظمة اليونسكو، فإننا نعيش اليوم في عالم مترابط الأجزاء أثبتت فيه الثقافة قدرتها على تحويل المجتمعات. فالتجليات المتنوعة للثقافة – بدءًا بالآثار التاريخية والمتاحف التي نعتز بها، وانتهاءً بالممارسات التقليدية والأشكال المعاصرة للفن- تثري حياتنا اليومية بطرائق لا تُعد ولا تُحصى. وفي حين يمثل التراث مصدرًا للهوية والتماسك في المجتمعات التي تواجه تحولات مُربكة، وتعاني من انعدام الاستقرار الاقتصادي، يسهم الإبداع في بناء مجتمعات منفتحة وجامعة وتعددية. ويساعد كل من التراث والإبداع على إرساء الأسس اللازمة لنشوء مجتمعات معرفية مفعمة بالحياة تزخر بأوجه الابتكار والازدهار، لاسيما بعد أن أُدمِج التراث في صلب سياسات التنمية، وأصبح استثمارًا أساسيًا في مستقبل العالم وشرطًا لا يُستغنى عنه لعمليات العولمة الناجحة التي تأخذ مبدأ التنوع الثقافي في الحسبان.
ونعتز في منطقتنا العربية بالتراث الغني والمتنوع الذي يمتد لآلاف السنين، شاهدًا على حضاراتٍ سامقة أنتجت كل المعطيات الرمزية والإنسانية المادية والمعنوية، وينبغي أن يبقى خالدًا في نفوسنا وعواطفنا وحيًا في ذاكرتنا ورؤانا، والذي يقول عنه سليمان العيسى:
وأبعدُ نحنُ من عَبْسٍ .. ومن مُضَرٍ نعم أبعدْ
حمورابي وهاني بعلُ .. بعضُ عطائنا الأخلدْ
لنا بلقيسُ والأهرامُ .. والبُرديُ والمعبدْ
ومن زيتوننا عيسى .. ومن صحرائنا أحمدْ
ومِنّا الناس يعرفها .. الجميعُ تعلموا أبجدْ
د. ياسر هاشم الهياجي
كلية السياحة والآثار
إضافة تعليق جديد