الفصحى والعامية متجاورتان في اللغات جميعها، وكذلك في لغتنا العربية، والعلاقة بينهما متوترة دائمًا، وتتحكم فيها ظروف اجتماعية، وثقافية، وسياسية، لكنه التوتر النسبي الذي تعلو وتيرته أحيانًا بفعل عوامل خارجة عن اللغة نفسها، وتهبط أحيانًا بفعل العوامل ذاتها.
والعامية في تراثنا اللغوي العربي قديمة قدم الفصحى نفسها، ولا يوجد مانع علمي يرفض حضورها في لغة العرب الجاهليين، ولعل في قول النبي _ صلى الله عليه وسلم _:» الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به العرب في بواديها وتسل به الضغائن من بينها» دليل صريح على وجود مستويين لغويين عند العرب القدماء، مستوى يميزه الرقي، لا يجوز التساهل في استخدامه، ومستوى آخر شعبي عامي.
ازداد هذا الحضور في عصر صدر الإسلام مع ازدياد عدد المعتنقين للدين الجديد من غير العرب، لكنه كان الحضور غير المؤثر؛ فلم تمثل العامية ظاهرة لغوية خطيرة، يخشى منها على العربية الفصيحة. وفي العصر الأموي قوي هذا الحضور؛ بسبب اندماج العديد من الأعراق في المجتمع العربي، لكنها _ أيضًا _ لم تستطع تشكيل تيار لغوي قادر على معاداة الفصحى، وظلت حبيسة ميدان التعاملات اليومية؛ لحرص الأمويين الشديد على عروبة دولتهم ورفضهم الخروج على هويتها العربية. وفي العصر العباسي وبسبب الانفتاح على الثقافات الفارسية، والرومانية، والهندية، الزنجية والبربرية، والقبطية، والتركية، والاندماج الكبير للعجم في المجتمعات العربية، ازداد حضور العامية وزادت مفرداتها بشكل لافت للنظر. هذه العامية استخدمها العرب الخلّص _لا شك_ وسيلة للتواصل في بيوتهم مع الخدم وفي الأسواق لقضاء حوائجهم، فاكتسبت شرعية الوجود، وأصبحت السيادة غير الرسمية لها، ما جعل هارون الرشيد يقول لبنيه: « ما ضر أحدكم لو تعلّم من العربية ما يصلح به لسانه، أيسُر أحدكم أن يكون كلامه أو لسانه كلسان عبده وأمته»،
لكنها لم تحل محل الفصحى في المواقف الرسمية، ولم تستطع أن تكون لغة للمؤلفات العلمية.
لم يرتفع شأن العامية بشكل ملحوظ إلا في الحقبة العثمانية، ثم في حقبة الاحتلال الغربي التي بدأت في نهايات القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر؛ فقد سعى المحتلون إلى تقويض الفصحى بغية تغيير العقلية العربية، وجعل السيادة اللغوية في المجتمعات العربية للعاميات. وقد كان لسعيهم نتائج سلبية على الفصحى، فظهرت عاميات كثيرة بلا أواصر قربى مع الفصحى، حافلة بمفردات إنجليزية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وهندية وأردية، وأصبحت لها السيادة الشعبية، واستخدمت لغة للتأليف والإبداع.
لكنها _ في رأيي _ سيادة هشة؛ فالعامية السودانية، والعامية المغربية، والعامية الشامية، والعامية الخليجية، وحتى العامية المصرية عظيمة الانتشار داخل الوطن العربي وخارجه، لا تحقق التواصل التام بين أبناء الوطن العربي في العديد من المواقف، ويضطر أصحابها إلى البحث في مخزونهم اللغوي عن مفردات فصيحة تساعدهم على إنجاز تواصلهم، كما أنها لم تستطع أن تفرض نفسها على المكاتبات الرسمية التي مازال أنصار العامية يكتبونها بالعربية الفصيحة، أو شبه الفصيحة، ولم تستطع _ كذلك_ فرض نفسها على لغة المؤلفات العلمية، ومنها مؤلفات دعاة العامية أنفسهم، فسلامة موسى كتب كتابه (البلاغة العصرية واللغة العربية) بلغة فصيحة رائقة، وكذلك فعل سعيد عقل في جل كتاباته. وهي مفارقة عجيبة في كتابات دعاة استبدال الفصحى بالعامية في وطننا العربي.
إن صراع السيادة بين الفصحى والعامية لن ينتهي؛ لذا نحن في حاجة إلى الاهتمام بالفصحى لغةً للتواصل اليومي، ولن يتحقق ذلك إلا بمنح الممارسة اللغوية المساحة ذاتها الممنوحة لتعليم اللغة داخل قاعات الدرس، وإلى تهذيب العاميات، حتى تقترب من الفصحى. في هذه الحالة فقط ستذوب العامية في الفصحى، وقد يصبح لنا مستوى لغوي واحد يستخدم على المستوى الرسمي والشعبي، أو مستويان متقاربان. والأمران يحتاجان إلى مشروع وطني كبير تسانده الحكومات.
الدكتور أبو المعاطي الرمادي
إضافة تعليق جديد