«التقنية» مصطلح مُصاغ ومُعرّب من لفظ «التكنولوجيا» اعتمده مَجْمَع اللغة العربيةبالقاهرة، وتم تبنيه واستخدامه من قبل بعض الدول العربية ومنها المملكة. والتكنولوجيا كلمة ذات أصل يوناني، تتكوّن من مقطعين: الأول «تكنو» ويعني حرفة أوفن أو مهارة، والثاني «لوجي» ويعني علم أو معرفة أو دراسة ليُصاغ ويُدمج الكل في كلمة «تكنولوجيا»، بمعنى علم الأداء والفهم والمهارة والتّطبيق. والتقنية من أهمظواهر ومعطيات العصر الحديث لما لها من عميق الأثر وأبعده في أداء الإنسانالمعاصر ومناحي حياته المختلفة في الطب والهندسة والزراعة والصناعة والاتصالاتوالنقل ووسائل إنتاج الطاقة واستخداماتها المتنوعة، كما أنها في الوقت ذاته من أكثرالظواهر إثارة للتساؤلات والتفسيرات والجدل من حيث تباين اتجاهات وآراء العلماءوالمفكرين حولها، إذ يرى المتفائلون منهم أنها ستسهم بدور فعّال في دفع العجلةالاقتصادية والصناعية خطوات إلى الأمام، لإنجاز الأعمال وتحسين وسائل الإنتاجوتحقيق مستويات أفضل للحياة الإنسانية، بينما يذهب المتشائمون منهم إلى أنها قدتسهم في شلِّ طاقات الإنسان الذاتية، وتعطيل قدراته العقلية وملكاته الإبداعية، وأنهاستعمل على إبدال الإنسان بالآلة، وبذكائها الاصطناعي وروبوتاتها المتحركة، ولكنبالرغم من هذه النظرة التشاؤمية فقد كان للتقدم العلمي والتقني المذهل في عالماليوم، دور كبير في التأثير على ميادين الحياة المختلفة، وتسهيل أساليب العملواختصار الوقت وتطوير وسائل الإنتاج لرفع كفاءة المُنْتَج وتحسين نوعيته.
وعلى أيَّة حال لا يخفى علينا أننا الآن نعيش في عصر يحفل بوسائل التقنية الحديثةبطرائقها المستجدة ومجالاتها المتعددة، وقنواتها المتشعبة والمتنوعة ومفاهيمها وتخصاصتها الشاملة في مختلف آفاق العلوم والمعرفة، ولعل ما يأتي في مقدمتهاظهور وانتشار الحاسبات الآلية وأنظمتها وبرمجياتها وأوعيتها التخزينية، التي تعينالمستخدم في التدوين والتنسيق والتعديل والحفظ، ومن ثم الرجوع إليه والبحث فيهوالنقل منه وتنسيقه وحفظه مرة أخرى، هذا إلى جانب تنظيم الجداول وعمل الرسوموكتابة المعادلات وتلوين وتنويع الخطوط، كذلك انبعاث تقنيات البرمجيات الحديثةفي وسائل العرض والإيضاح المعروفة بالـ (بور بوينت)، والتي أتاحت للعالموالمتخصص والباحث والطالب الجامعي، عرض أفكاره وأبحاثه ودراساته ومشاريعهوخططه بشكل جذاب، وعلى نحو مركز ومقنع ومؤثر ومريح. ولعل أشهر التقنيات المستجدة في الوقت الحاضر على الإطلاق، ألا وهو بزوغ عصر الشبكات العنكبوتية والمعروفة ب «الأنترنت»، حيث أتاحت هذه التقنية الباهرة عوالم فسيحة مجالات رحبة للبحث والاطلاع والاستكشاف والتنقيب. وإذا كان الكتاب يمثل مصدرًا من مصادرالمعرفة، ورافدًا من روافد الثقافة، يبحث فيه الدارس والباحث والمهتم ليجد فيه بغيته ومراده، بيد أنه الآن بدأ يفقد وهجه وجاذبيته مع حلول الوسائل الحديثة التي استجدت في وسائل البحث والتنقيب، ونقل المعلومات وتصويرها وحفظها بكل يسروسهولة، وإذا كنا في عصر السرعة مع الاهتمام بالوقت كمادة ثمينة، نحرص على الحفاظ عليها والاهتمام بها وعدم إضاعتها وإهدارها فيما لا يُجدي أو يعود بالنفع، فقد أتاحت وسائل الإنترنت هذه خيارات واسعة وسهلة وميسرة في عمليات البحث والتنقيب والاستكشاف، والعثور على المعلومات المطلوبة من مصادر متعددة ومراجعمتباينة، ومن ثم رصدها وتجميعها والإبقاء عليها. ومعنى ذلك أن الخط العربي والكتابة اليدوية ستختفيان وستلحق بهم الأوراق والأقلام. كما أن التقنية المعروفة بالبريد الإلكتروني أضحى لها الآن دور فاعل في تسهيل الاتصالات، وإرسال واستقبال الملفات، وتبادل المعلومات ونقل الوثائق والصور والمستندات بسرعات فائقة وأمينة. كما ظهرت التقنية الباهرة أثناء جائحة تفشّي وباء الكورونا في استمرار عمليات التعليم (عنبُعد) والتي لولاها لتعطلت مسيرة التعليم وخسر الطلاب والطالبات الكثير من تحصيلهم العلمي وتقدمهم في مراحله، إلى جانب أن الاجتماعات واللقاءات، سواءًأكانت تلك الروتينية المتبعة، أم في المؤتمرات والندوات العلمية، إذ كانت تنظم وتعقد وتتم في أجوائها المعتادة دون تأثر أو انقطاع.
ومع تحولنا للعالم الرقمي وعوالمه الافتراضية وتقنياته المستجدة فهناك أشياء كثيرة ستختفي أو هي في طريقها لذلك، أنظر مثلًا إلى الصحف الورقية، التي تستطيع أن تقرأها الآن الكترونيًا، عن طريق الإنترنت بطريقة سهلة مرنة ميسرة، ولو كنا نقرؤهاورقيًا أرهقت أيدينا و أعيننا ورقابنا من التلفت أعلى وأسفل ويمنة ويسرة، ناهيك عن إمكانية نقل وحفظ المعلومات والبيانات والمقالات من صفحاتها للرجوع إليها والاستفادة منها بعد ذلك. كذلك الساعات اليدوية التي يبدو أن الكثير منا قد استغنىعنها مما يهدد وجودها بالانحسار وربما إلى الزوال لأن في الجوال ما يغني عنها، ومثلهاأوراق النقد التي حلَّ محلها البطاقات الإلكترونية المشفرة مما زاد النقود حفظًا وأمنًاوالتسوق سهولة وسلاسة ويسرًا.
كما أن الذكاء الاصطناعي هو أحد إفرازات التقنية البارزة التي تعتمد على تقنيات عالية،وأساليب متطورة، مما يجعله ذا تأثير بالغ على ميادين الحياة المختلفة، من حيث تسهيل أساليب العمل واختصار الوقت، وتطوير وسائل إنتاج الطاقة، ورفع كفاية وكفاءة وجودة منتجاتها بوسائل وطرق اقتصادية وبيئية مثلى. والآمل معقود على دَوْرالتقنيات الحديثة لتطوير الذكاء الاصطناعي، كقوة علمية موجهة لاستثمار مصادرناوثرواتنا الطبيعية، التي أفاء الله بها علينا في بلادنا الغالية من نفط وغاز ومعادن ثمينة،كأيِّ بلاد ترنو لمستقبل زاهر لتطوير صناعاتها الوطنية، وملكاتها الذاتية وقدراتهاالبشرية، وبتوظيف الذكاء الاصطناعي واكتساب ثمراته ونتاجاته ومعطياته، فلديناالكثير من التحديات ولعل من أهمها: الطاقة وتحولاتها، واستغلال الطاقات المتجددةالنظيفة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فالإنسان المعاصر يزداد شغفًا وتفهمًا وتقبلاًللاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة، مما يحفزه على التعمُّق في البحثوالاستقصاء ومن ثم الابتكار والاستكشاف في أفاق واسعة وعوالم فسيحة مجهولة.
إن الاهتمام بالتقنية مطلب ملح، حيث إنها من أهم روافد تقدم دول العالم المعاصرماديًّا وصناعيا وصحيا وبيئيا وإعلاميا وسياسيًّا وعسكريًّا، فإن ما أنجزته اليابان مثلاًبسبب تقدمها التقني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لخير شاهد على ذلك، إذ تحولتخلال فترة زمنية قصيرة نسبيًّا من دولة محطمة متداعية منهكة إلى دولة ناهضة فتيةتنافس الدول الصناعية الكبرى بريادتها العلمية وسبقها الصناعي وتفوقها التقني.
إن الحضارة (أي حضارة إنسانية) تقوم على التغيرات التقنية المستجدة وهي شكل من أشكال الثقافة التي يتعلمها الإنسان، وتصبح بالنسبة له من المقومات الرئيسة في ارتباطه بالحياة واستمراره فيها، فـ الـمـعـرفـة التقنية والعلمية التي في متناولنا تكفين الـقـضـاء على أعـداء الإنسانية الثلاثة: التخلف والفقر والمرض، وتهيأ لنا كذلك بيئة نظيفة آمنة مستقرة نعيش في كنفها حياة أفضل، كما نتخذ منها مطية لتنطلق بها في مناحي التنمية والتطور وميادين الارتقاء والتصنيع، ولعلنا نستلهم من هذه التجارب،دروسًا وعبرًا تضيء أمامنا الطريق وتزيل منه العقبات، وتعودنا على الصبر والتأني،وبذل الجهد الدؤوب والعمل الجاد في تبني هذه الظاهرة العجيبة في عصرنا الحديث من أجل الوصول إليها والحصول عليها، وتوطينها في مملكتنا العزيزة الغالية حفظها الله.
الأستاذ الدكتور عبد الله محمد الشعلان
كلية الهندسة
إضافة تعليق جديد