لا يخفى على مطلع أهمية الملكية الفكرية، وتعدد مجالاتها واتساع نطاقها في عصرنا الحديث بشكل متسارع، مما يوجب معه سرعة مواكبة هذا التطور والإحاطة به وأهمية تنظيم مجالاته وما ينشأ عنها.
ولكون التقنية أمرًا مهمًا، ونقطة تحولٍ لأغلب المجالات إن لم تكن جميعها، فقد تدرج الذكاء الاصطناعي في دخوله المجالات المختلفة؛ حتى توصل لبعض المجالات المتعلقة بالملكية الفكرية، مما نشأ عنه بطبيعة الحال بعض الحالات الموجبة للتساؤل والتوضيح، وما نعنيه على وجه الخصوص هو «مدى اعتبار الذكاء الاصطناعي مؤلفًا فكريًا وفقًا لمفهوم حق المؤلف».
و الباحث والناظر سيجد أن هذا الأمر محل اختلافٍ بين مؤيدٍ ومعارضٍ لاعتبار تلك البرمجيات مؤلفات فكرية. فقد اتجه الاتجاه الأول (المعارض) إلى القول بأن حماية حق المؤلف غير منطقية هنا، وذلك بسبب تجرد العمل عن الطابع الجمالي والفكر البشري، مبررًا ذلك بأن البرمجيات ذات طابع تقني يقتصر دورها في نطاق محدود لا يتجاوز تشغيل الآلات وما يتعلق به، أي أن غايتها تتمثل في توجيه مجموعة العمليات المتعاقبة التي يقوم بها الجهاز الرقمي، وعليه فإن دور البرمجيات ينتهي عند تنفيذ هذه المهمة. بينما يرى الاتجاه الثاني (المؤيد) أنه لا ضير من اعتبار برمجيات الذكاء الاصطناعي مؤلفات فكرية وذلك لأن حق المؤلف لا يحمي إلا المصنفات الفنية، وفي الوقت نفسه فإن القوانين لم تعطِ تعريفًا صريحًا للفن؛ كونه مفهومًا مرنًا متغيرًا وغير مقننٍ بمفهومٍ ثابتٍ، ولذلك فإنه من غير المقبول عدم اعتبار برمجيات الذكاء الاصطناعي مؤلفاتٍ فكريةٍ لما ذكره الاتجاه الأول من أسباب. وقد اتجهت محكمة التمييز الفرنسية مع الاتجاه الثاني في قرارها الصادر عام 1982 بما نصه: (تمتد الحماية القانونية إلى كل مصنف ناشئ عن خلقٍ ذهنيٍ مبتكرٍ، بمعزلٍ عن كل اعتبارٍ جماليٍ أو فني). وقد دعمت محكمة أمريكية في العاصمة واشنطن قرار محكمة التمييز الفرنسية، إذ نصت في قرارها الصادر مؤخرًا على: «أن العمل الفني الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي دون أي مساهمة بشرية لا يمكن أن يتمتع بحقوق الطبع والنشر بموجب القانون الأمريكي».
وبالنظر إلى ما أخذت به معظم الدول في هذا الشأن، فنجد أنها أخذت بمعيار الابتكار لحماية مصنفات الفكر الإنساني المختلفة. ويمكن تعريف «الابتكار» بأنه: الطابع الإبداعي الذي يُسبغ على المصنف الأصالة والتميز. كما عرفه المنظم السعودي في المادة الأولى من اللائحة التنفيذية لنظام حقوق المؤلف بأنه: (الطابع الشخصي الذي يعرضه المؤلف في مصنفه ويعطي المصنف تميزاً وجدة، ويبرز المصنف من خلال مقومات الفكرة التي عرضها أو الطريقة التي اتخذها لعرض هذه الفكرة).
وبطبيعة الحال فإن شرط الابتكار يختلف بحسب مفهومه من دولة إلى أخرى، فهناك من يستند إلى المعيار الموضوعي ويكون الابتكار فيه لم ينسخ أو تم تقليده، بينما المعيار الذاتي يعتبر المصنف مبتكرًا عندما يحمل البصمة الشخصية للمؤلِف مما يعكس على المؤَلف شيئًا من شخصيته.
وتعد الأصالة والجدة أهم عنصران يُعرف بهما الابتكار، إذ أن الأصالة هي الأساس الذي يقوم عليه حق المؤلف، وهي في الوقت نفسه طابع الشخصية الناتج عن إبداع المؤلف، بينما الجدة هي معيار الملكية الصناعية.
وتجدر الإشارة إلى أن الاختلاف بين الجدة والابتكار لم يكن نقطة اختلاف في الماضي، ولكن مع التطور التقني المتسارع وظهور المستجدات المختلفة، والتطور الملفت لمجال الذكاء الاصطناعي ومدى علاقته بمجال حق المؤلف؛ فقد أضحى من الصعب اعتبار التقنيات الجديدة داخلة في نطاق حق المؤلف إذا اعتمدنا على المعيار الذاتي، لأن هذه الحالة ستجعلنا نتساءل: كيف لتعليمات وضعتها الآلة أن تحمل طابعًا شخصيًا؟. في حقيقة الأمر أن المستجدات والتطورات المستمرة وسعت نطاق حق المؤلف ليستوعب برمجيات الذكاء الاصطناعي، ولا يتطلب في هذه الحالة إلا شرط الأصالة في الابتكار ولكن بمفهوم جديد، وينبغي اعتماد المعيار الموضوعي لكي تصبح برمجيات الذكاء الاصطناعي محميةً ضمن حق المؤلف. وفي السياق نفسه لو نظرنا في النظام الانجلوسكسوني والنظام اللاتيني، لوجدنا أن النظام الأول يشترط أن يكون المؤلف قد استعمل بعض المهارات والعمل المميز في صنعه، بينما يشترط النظام الثاني أن ينعكس المؤلف على شخصية مؤلفه وأن يتضمن نشاطًا ابتكاريًا.
وتأسيسًا على ما سبق، ولما للتشريعات من أهمية في التنظيم وحفظ الحقوق ودرء ما من شأنه إثارة النزاع ومسائل الاختلاف، ولكون هذا الإشكال بحاجة لمعالجته تشريعيًا، وبعد الاطلاع على ما ورد في «مشروع نظام الملكية الفكرية»، نتوصل إلى أن المنظم السعودي قد عالج هذا الإشكال من خلال (مشروع النظام) حيث أنه حدد نسب معينة للتمييز بين أحقية الشخص الطبيعي والذكاء الاصطناعي في حق الملكية الفكرية، إذ نصت المادة 17 من مشروع النظام على أن: « تتمتع الملكية الفكرية الناتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي بالحماية متى كان إسهام الشخص -الطبيعي- بارزًا فيها». ونصت المادة 18 على أن: « يعد مالكًا لحقوق الملكية الفكرية الناتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي؛ الشخص الذي قام باتخاذ الترتيبات اللازمة للوصول إلى الملكية الفكرية». كما نصت المادة 19 على أن: «تؤول الملكية الفكرية الناتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي إلى الملك العام؛ وذلك في الحالات التي لا يبرز فيها إسهام الشخص الطبيعي في ابتكارها، أو التي يتوصل إليها الذكاء الاصطناعي باستقلالية عن الشخص».
عمر الشهري
كلية الحقوق والعلوم السياسية
إضافة تعليق جديد