التَّوَحُّشُ اللُّغَوِيُّ

 

 

اللُّغَةُ الْمُتَوَحِّشَةُ، وَعُنْفُ اللُّغَةِ، وَسُلْطَةُ اللُّغَةِ، وَاللُّغَةُ النَّاعِمَةُ، وَاللُّغَةُ اللَّيِّنَةُ، وَاللُّغَةُ الْحَالِمَةُ، وَحَرْبُ اللُّغَاتِ، كُلُّهَا تَوْصِيفَاتٍ لِلُّغَةِ فِي حَالَاتِهَا التَّدَاوُلِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَرُبَّمَا يَصِلُ الْأَمْرُ بِهَا إِلَى مُصْطَلَحَاتٍ لَهَا مَدْلُولَاتُهَا، وَبَعْضُهَا أَصْبَحَ عَنَاوِيْنَ لِكُتُبٍ وَمُحَاضَراتٍ.

لَنْ أَدْخُلَ فِي النِّقَاشَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِلْعَنَاوِينِ السَّابِقَةِ، وَلَكِنَّنِي سَأُضِيفُ عِنْوَانًا آخَرَ يُعَبِّرُ عَنْ حَالِ مُعْظَمِ مُتَعَلِّمِيِّ اللُّغَةِ فِي كَلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، وَحَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ، أَلَا وَهُوَ «التَّوَحُّشُ اللُّغَوِيُّ» وَسَأُورِدُ مَوْقِفًا مَعَ أَحَدِ ضُيُوفِ الْمِمْلَكَةِ الْعَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ، الَّذِيْنَ اِسْتَقْبَلَتْهُمُ جَامِعَةُ اَلْمَلِكِ سُعُود لِلدِّرَاسَةِ فِي مَعْهَدِ اللُّغَوِيَّاتِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَو يَصِفَ سُلُوكَهُ فِي مَرْحَلَةٍ مَنَ الْمَرَاحِلِ بِالتَّوَحُّشِ اللُّغَوِيِّ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ قَدْ تَحْدُثُ مَعَ أَيِّ مُتَحَدِّثِ لُغَةً ثَانِيَةً، أَوْ قّدْ تَكُونُ مَعَ مُتَحَدِّثِي اللُّغَةِ الْأُمِّ.

كَانَ ضَيْفُنَا الْكَرِيمِ يَعْمَلُ فِي بَلَادِهِ مُعَلِّمًا لِتَعْلِيمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لُغَةً ثَانِيَةٍ، وَقَدِمَ لِلْمَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ، لِيَدْرُسَ دِبْلَومَ إِعْدَادِ مُعَلِّمِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لُغَةً ثَانِيَةً، يَجْلِسُ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ مِنْ القَاعَةِ الدِّرَاسِيَّةِ بِاسْتِمْرَارٍ، رَجُلٌ يَكْتَنِفُهُ الْغُمُوضُ، وَيَحْتَوِيهِ الصَّمْتُ، يَبْرُقُ مِنْ عَيْنَيْهِ الذَّكَاءُ، وَتَلْمَحُ فِي مَحَيَّاهُ السَّكِينَةَ وَالاِسْتِحْيَاءَ، بَيْدَ أَنَّ لُغَتَهُ الجَسَدِيَّةُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ اللَّحَظَاتِ تُشْعِرُنِي بِأَنَّ الَّذِي أَمَامَي أَسَدٌ مُتَوَثِّبٌ لِلاِنْقِضَاضِ عَلَى فَرِيسَتِهِ.

نَحْنُ فِي الْأَسَابِيعِ الْأُولَى مِنَ الْفَصْلِ الدِّرَاسِي، وَضَيْفُنَا لَا يُمْكِنُ التَّنَبُّؤُ بِمَا يَفْعَلُ، فَتَارَةً تَجِدْهُ فِي قَمَّةِ الْهُدُوءِ، يَتَكَلَّمُ وَيُنَاقِشُ وَيُحَاوِرُ، وَيُقْنِعُ وَيَقْتَنِعُ، وَتَارَةً أُخْرَى يَرْتَفِعُ صَوْتُهُ، وَتَتَبَعْثَرُ كَلِمَاتُهُ، وَلَا تَكَادُ تَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ مَقَالِهِ، الْفِكْرَةُ عِنْدَهُ غَيْرُ وَاضِحَةٍ، وَالْجُمَلُ غَيْرُ مُرَتَّبَةٍ، وَالْفِقْرَةُ غَيْرُ مُتَسَلْسِلَةٍ، لَا تَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ وَإِلَى أَيْنَ سَيَنْتَهِي.

فَجْأَةً يَفْقِدُ السَّيْطَرَةَ عَلَى جَسَدِهِ مِثْلَمَا فَقَدَ السَّيْطَرَةَ عَلَى لُغَتِهِ، فَيَبْدَأُ بِتَحْرِيكِ يَدَيْهِ، وَتَتَغَيَّرُ تَعَابِيرُ وَجْهِهِ؛ إِنَّهَا لُغَةً أُخْرَى وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَنْطُوقَةٍ، إِنَّهَا لُغَةُ الْجَسَدِ الَّتِي تُضِيفُ لِمَا نَقُولُ مَعَانِيَ إِيجَابِيَّةٍ أَوْ سَلْبِيَّةٍ.

وَحَتَّى لَا نَظْلِمَ ضَيْفَنَا، فهَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَخُصُّهُ وَحْدَهُ، بَلْ يَكَادُ مُعْظَمُ مُتَعَلِّمِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ كلُغَةٍ ثَانِيَةٍ وَمُتَحَدِّثُو اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ عُمُومًا تَحْدُثُ مَعَهُمُ هَذِهِ الْحَالَةُ، بَلْ إِنَّ أَيَّ وَاحِدٍ مِنَّا قَدْ حَدَثَتْ مَعَهُ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِهِ، نَشِّطْ ذَاكِرَتِكَ لِتَعْرِفَ مَتَى آخَرُ مَرَّةٍ جَاءَتْكَ هَذِهِ الحَالَة.

نَعُودُ لِضَيْفِنَا، بَعْدَ أَشْهُرٍ مَضَتْ مِنْ الدِّرَاسَةِ، اِسْتَطَعْتُ أَنْ أُكَوِّنَ مَعَ الْمُعَلِّمِ الْقَدِيرِ عَلَاقَةً تَسْمَحُ لِي بِالدُّخُولِ مَعَهُ فِي أَحَادِيثَ جَانِبِيِّةٍ، وَأَنْ أَسْأَلَهُ أَسْئِلَةً كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ إِجَابَاتٍ لَهَا، فَمِنْ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ، وَبِالطَّبْعِ لَيْسَ السُّؤَالَ الأَوَّلُ، فَقَدْ سَبَقَتْهُا أَسْئِلَةٌ تَمْهِيدِيَّةٌ: أُسْتَاذِي الْقَدِيرُ، أُرِيدَ مُسَاعَدَتِي فِي فَهْمِ السَّبَبِ الَّذِي يَجْعَلُ بَعْضَ الدَّارِسِينَ يَنْفَعِلُ فَجْأَةً، وَتَبْدُو عَلَيْهِ سُلُوكِيَّاتٌ غَرِيبَةٌ، وَيَفْقِدُ السَّيْطَرَةَ عَلَى لُغَتِهِ وَجَسَدِهِ، مَا هُوَ السَّبَبُ حَسَبَ اِعْتِقَادِكَ؟

تَبَسَّمَ ضَاحِكًا، وَانْفَرَجَتْ أَسَارِيرُهُ، مَعَ قَهْقَهَةٍ يُحَاوِلُ كَتْمَهَا بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَى فَمِهِ، لَكِنَّ أَسْنَانُهُ تَلْمَعُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، يَحْنِي رَأْسَهُ قَلِيلًا وَيَنْظُرُ لِلْأَرْضِ، يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَرْمُقُنِي بِبَصَرِهِ، يُعِيدُ ظَهْرَهُ عَلَى الكُرْسِيِّ، يَجْلِسُ مُسْتَرْخِيًا، يَلْتَفِتُ إِلَيَّ وَيُجِيبُ مُمَازِحًا، وَوَجْنَتَاهُ مُحْمَرَّتَانِ مِنْ الخَجَلِ: «وَكَأَنَّكَ تَتَحَدَّثُ عَنِّي»!

فَأَجَبْتُهُ كَلَّا، إِنَّ هَذَا يَحْدُثُ مَعَ الجَمِيعِ، وَرُبَّمَا أَكُونُ مُخْطِئًا. فَرَدَّ: «لَا، لَا، لَسْتَ مُخْطِئًا، وَلَكِنَّي سَأُعْطِيكَ الإِجَابَةَ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِي، وَمِنْ خِلَالِ تَجْرِبَتِيْ الخَاصَّةُ» وَبَدَأَ يَقُولُ مَا عِنْدَهُ.

يَا أُسْتَاذِيَ العَزِيزُ: عِنْدَمَا تَلَقَّيْتُ خَبَرَ قَبُولِي لِلدِّرَاسَةِ بِجَامِعَةِ المَلِكِ سَعُودٍ، بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ شَعَرْتُ بِالْخَوْفِ مِنَ الْمَجْهُولِ، فَأَنَا تَعَلَّمْتُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ فِي بَلَادِي، وَأَصْبَحْتُ مُعَلِّمًا لَهَا، وَالآنَ أَدْرُسُ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِهَا لِغَيْرِ النَّاطِقِينَ بِهَا، وَمِقْدَارُ مَا تَعَلَّمْتُهُ مِنْ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةُ هُنَا يَفُوقُ مَا تَعَلَّمَتُهُ فِي بَلَادِي، بِسَبَبِ الاِخْتِلَاطِ بِأَهْلِ اللُّغَةِ.

ثُمَّ يَسْتَرْسِلُ فِي كَلَامِهِ قَائِلًا: أَحْيَانًا أُوَاجِهُ مَوَاقِفَ صَعْبَةً، فَعِنْدَمَا يُطْرَحُ مَوْضُوْعٌ جَدِيدٌ لَلنِّقَاشِ، وَلَا أَمْلِكُ مِنَ الْكَلِمَاتِ مَا يُعِينُنِي عَلَى إِيصَالِ مَا أُرِيدُ إِلَى الْمُسَتَمِعِ، أَبْدَأُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِيَدِيَّ لِشَرِحِ مَا أُرِيدُ قَوْلَهُ، فِإِذَا لَمْ تَصِلِ الرِّسَالَةُ، يَزْدَادُ تَوَتُّرِي وَتَظْهَرُ عَلَى شَكْلِ انْفِعَالَاتٍ، وَتَخُونُنِي تَعَابِيرُ وَجْهِي، بِبَسَاطَةٍ أَشْعُرُ بِأَنَّ دَاخِلِي وَحْشٌ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ، وَأَنَا أُقَاوِمُهُ وَأَقُوْلُ لَهُ: أَنَا لَسْتُ وَحْشًا، فَقَطْ اِفْهَمُوا مَا أُرِيدُ قَوْلَهُ لَكُمُ، أَرْجُوكُم اِفْهَمُونِي.

آهٍ لَوْ تَعْلَمُ كَمْ تَزِيدُ رَدَّةُ فِعْلِ الْآخَرِينَ السَّلْبِيَّةُ الْأَمْرَ سُوْءًا، فَهُمُ لَا يَسْتَوْعِبُونَ أَنَّنِي أُوَاجِهُ مُشْكِلَةَ لُغَةٍ لَا تَسْمَحُ لِي بِالتَّوَاصُلِ مَعَهُمْ، هَذَا هُوَ الأَمْرُ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ، لَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ.

سَكَتَ فَجْأَةً، ثُمَّ سَأَلَنِي هَلْ أَفَدْتُكَ؟ قُلْتُ لَهُ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ.

هُنَا بَدَأْتُ حَدِيثَاً دَاخِلِيًّا مَعَ نَفْسِيَ قَائِلًا: إِنَّ الْمَوَاقِفَ الاِنْفِعَالِيَّةَ السَّلْبِيَّةَ الَّتِي تَحْدُثُ مَعَ بَعْضِنَا البَعْضِ، أَوْ مَعَ زَوْجَاتِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَقَارِبِنَا، أَوْ طُلَّابِنَا أَوْ زُمَلَائِنَا، أَوْ الَعَمَالَةِ فِي بُيُوتِنَا أَوْ فِي أَيِّ مَكَانٍ، سَبَبُهَا غَالِبًا اللُّغَةُ، فَعِنْدَمَا لَا نَفْهَمُ لُغَةَ بَعْضِنَا البَعْضِ، وَلَا نَسْتَطِيعُ إِيصَالَ مَا نُرِيدُ بِاللُّغَةِ الْمُنَاسِبَةِ نَلْجَأُ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِحَرَكَاتٍ جَسَدِيَّةٍ قَدْ لَا يَكُونَ لَهَا عَلَاقَةٌ بِاللُّغَةِ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهَا سَتُسَاعِدُنَا فِي إِيصَالِ مَا نُرِيدُ قَوْلَهُ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تُظْهِرُنَا مُتَوَحِّشِينَ، هُنَا يَجِبُ أَنْ نُفَرِّقَ بَينَ أَنْ تَكُونَ اللُّغَةُ الْمُسْتَخْدَمَةَ مُتَوَحِّشَةً حَقِيقَةً، وَبَيْنَ سُلُوكٍ أَظْهَرَ تَوَحُّشًا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ بِسَبَبِ ضَعْفِ اللُّغَةِ لَدَيْنَا حَقًّا.

يَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا اِسْتِعْمَالُ لُغَةٍ لَيَّنَةٍ سَهْلَةٍ وَاضِحَةٍ فِي كَلَامِنَا، تُنَاسِبُ مَنْ يَتَحَدَّثُ مَعَنَا، نَتَحَمَّلُ بَعْضَنَا البَعْضَ، نَحْمِلُ كَلَامَ الآخَرِينَ مَحْمَلًا حَسَنًا، فَاللُّغَةُ حَمَّالَةُ أَوْجُهٍ، فَلَا نُحَمِّلُهَا مَا لَا تَحْتَمِلُ، نَعْذُرُ مَنْ لَا يُتْقِنُ اللُّغَةَ وَنُسَاعِدُهُ، وَلَّا نَكُونُ أَسْرَى لِرَدَّاتِ الْأَفْعَالِ، نَسْأَلُ الْمُتَحَدِّثَ عَمَّا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ إِذَا لَمْ نَفْهَمْهُ، أَوْ فَهِمْنَاهُ بِصُورَةٍ خَاطِئَةٍ، نَتَأَنَّى وَنَحْلُمُ وَنَرْفِقُ وَتَتَّسِعُ صُدُورِنَا، عِنْدَهَا سَنَبْتَعِدُ عَنِ السُّلُوكِ الْمُتَوَحِّشِ، وَاللُّغَةِ الْمُتَوَحِّشَةِ، وَنَقُولُ لِلمُتَحَدِّثِ مَا قَالَهُ الشَّاعِرُ:

بِالله ثَغْرُكَ هَذَا سَالَ مِنْ عَسَلٍ       أَمْ هَلْ صَبَبْتَ عَلَى أَسْمَاعِنَا الْعَسَلَا

د. سعد بن علي آل سعد الغامدي

معهد اللغويات العربية

Saad-Ali1@hotmail.com

0
قم بتقييم هذا المحتوى

إضافة تعليق جديد

التحقق البصري
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
Image CAPTCHA