اصطفت أعواد الثقاب جنباً الى جنب وأعناقها المكللة بتيجان الاشتعال ترنو إلى الأعلى في مشهد مهيب واصطفاف جميل لم يفسده إلا اشتعال اللهب فجأة في أحد الأعواد، فسرت النيران إلى جيرانه، حتى تنبه أحدهم فأعلن الانسحاب من مشهد الاصطفاف المرصوص، وانسل بهدوء للخلف تاركًا وراءه فراغًا ليتوقف عنده الشرر، فحفظ نفسه من الاحتراق وحفظ الصف من الاشتعال، في شجاعة نادرة وقدرة على اتخاذ القرار السريع بالانسحاب، وكأنه يشير مع هذه الصورة الجمالية إلى أن الانسحاب أحيانًا ينقذ الموقف.
هذه العبارة الأخيرة غالباً تستخدم مقترنة بالصورة، ولا أعلم لها مرجعًا تؤب إليه، لكني أرى أن انسحاب عود الثقاب في الصورة له دلالات رمزية لأشياء أبعد من هذه العبارة فقط.
الانسحاب هنا لم يخل بنظام اصطفاف أعواد الكبريت ولم يثر فيها الفوضى، حتى إن أحداً من الأعواد لم يلاحظ كيف انسل ذلك العود البطل من مكانه ليتوارى عن الأنظار دون إثارة بلبلة أو دعوة للشغب أو العصيان، وهذا الانسحاب السريع تدارك به الموقف قبل وصول الحريق إلى أعواد الثقاب الأخرى، خاصة وأن الواحد منها يحمل في قمة رأسه مادة حساسة قابلة للاشتعال وعندما تشتعل يسري حريقها إلى بقية العود الخشبي وتحرق من حولها وعندها قد لا ينفع الانسحاب كما لا ينفع الندم.
لقد درس عود الثقاب المنسحب الموقف جيدًا، ولم يأت قراره بالانسحاب ضربة حظ، فقد كان يراقب الموقف عن كثب، لكنه لم ينسحب عندما اشتعل الحريق في عود الثقاب الأول ظناً منه أن جاره الذي يليه سيتدارك الموقف وينسحب حتى يحافظ على النظام والاصطفاف الجميل، ولقد تحامل صاحبنا على نفسه واضطر مكرهًا للانسحاب لعلمه وفقهه أن الجمال في البنيان المرصوص ولا خير في الفرد إن لم يكن عوناً وحاميًا للجماعة.
هذا الانسحاب الهادئ السريع لم يزعج أحدًا ولم يثر ضجة أو توتراً بين أصحابه أومن معه في علاقة الاصطفاف، وأعظم من ذلك كله أنه لم يتبن مقولة المؤامرة ولم يتهم أحداً بالتقصير أو يحمله نتيجة الفشل في إطفاء الحريق، بل حافظ على متانة العلاقة مع الآخرين ولم يخل بنظامها حتى مع الانسحاب.
لقد انسحب بكامل عافيته وبأقل الخسائر وأكثر المغانم، بل أشار هذا الانسحاب إلى طريقة مبتكرة في إطفاء الحريق، وهي أن الإطفاء قد لا يكون بسكب دلو الماء أحياناً، بل يكون بعزل منطقة الاشتعال عن المناطق السليمة وذلك بسحبها من مشهد الاشتعال.
تتكرر عملية الانسحاب في حياتنا اليومية وفي علاقاتنا مع الآخرين وفي مواقفنا ومعاركنا الكلامية وفي ميدان الحركة والفعل في المجتمع، وفي أحسن الأحوال قد يكون كانسحاب عود الثقاب في الأثر والطريقة، وفي أسوأ الأحوال قد يؤول إلى خصومة وفجور، فمثلاً في الانسحاب العاطفي تصاب العلاقة بين طرفيها بالفتور أو البرود العاطفي ويصاحب ذلك إحباط وتوتر وخيبة أمل تجاه المقابل، وقد يكون من أسباب ذلك عدم إجادة الطرفين أو أحدهما فن الاتصال العاطفي الفعال أو بسبب عدم الرغبة في ذلك.
لقد علمنا انسحاب عود الثقاب كيف نحافظ على علاقة الاحترام المتبادل والود والرحمة السابقة للانسحاب وذلك حتى لا يؤول الانسحاب العاطفي للرجل أو المرأة إلى عزلة عدائية مقيتة تجعل من الإنسان السوي كياناً محطمًا وكتلة هامدة باردة من الإحساس والشعور، وقد تحمل الطرف الآخر كامل المسؤولية أو تعمد لتشويه صورته والانتقاص من شخصه أمام الآخرين.
وفي معاركنا الكلامية وساحات الرأي قد نضطر للانسحاب وبخاصة عندما تصل السجالات الكلامية والآراء إلى التنابز بالألقاب والتفسيق والتجهيل والتسفيه ودفع الحق والاحتقار والازدراء للآخر، وانسحابنا هنا ليس خوفًا أو هزيمة واستسلامًا أو عدم قدرة على المواجهة، بل هو مصدر قوة وسلطة تتحكم بشهواتنا الكلامية والانتصار للرأي، عليك أن تنسحب بهدوء دون تجريح أو تخوين أو تجهيل للآخر وحافظ ما استطعت على جمال حرية الرأي وتجنب السيئ منها.
وفي ميدان العمل والحركة في المجتمع أو في سبيل تحقيق حلمك لا تنسحب خوفًا من الفشل أو جزعًا من الألم أو بسبب ضعف همة وخور عزيمة وقلة صبر، وكن في زمرة أبطال الحياة عندما تدعوهم أنفسهم إلى التوقف عن الركض والانسحاب من المضمار، فقد نازعت محمد علي كلاي - رحمه الله - نفسه بالانسحاب بدعوى التعب والألم والمعاناة، فكان يقول: «كنت أكره كل دقيقة في التمرين لكنني كنت أقول لنفسي لا تنسحب، تحمل المعاناة الآن وعش بقية حياتك بطلاً».
إياك إياك أن تنسحب في ميدان الشرف والبطولة ومدافعة الشر وفلوله، فإنها سنة التدافع إلى يوم الدين، قاوم بكل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ولا تكن داعية للانسحاب والانهزام والخذلان، كشاعر هاله سطوة الباطل وضعف النصير، فنادى عنترة بأن يلقي السلاح وينسحب، وأن يقبل سيوف الغاصبين ويخفض جناح الذل لهم، فهم ضواري مستأسدة، وقال:
كفكف دموعك وانسحب ياعنترة
فعيون عبلة أصبحت مستعمرة
لا ترجُ بسمة ثغرها يوما فقد
سقطت من العقد الثمين الجوهرة
قبّل سيوف الغاصبين ليصفحوا
واخفض جناح الخزي وارجُ المعذرة
وبالرغم من كل هذه الدموع والمآسي والأحزان والخذلان لا تنسحب يا عنترة:
لا تنسحب، لا تنسحب ياعنترة
فديار عبلة والليالي مقمرة
لا تنسحب لا تنتحب لا تنحني
فعيون عبلة والعباءة مفخرة
لن يقتلوا فينا عزيمة خالد
لن يستطيعوا أن ينالوا حيدرة
د. عبدالإله الحيزان
كلية العلوم كيمياء
إضافة تعليق جديد