في عالم العمل والإنجاز يمر بنا أناس وضعوا بصمتهم المؤثرة عبر إنجازات، وتاريخ يسجل بمداد من ذهب، وفي العمل الأكاديمي في جامعاتنا تُوفّق بعض الأقسام والمناصب الإدارية بطاقات جبارة، وكثير من هؤلاء تبدو عليهم علامات التميز الإداري من خلال لجان ومناشط، ولكن العجيب أن هناك طاقات لا يعرف جوهرها إلا عندما توضع على المحك فتشع وتتوقد وتضيئ أرجاء المكان.
وقد كان من هذا النوع الأخير أخي الحبيب الأثير في نفسي، صديقي وزميلي الذي أعدّه من خلَّص زملائي وأصدق إخواني: الأخ المبارك الموفق المسدد المقرئ أبو فوزان أ. د. محمد بن فوزان العمر.
بدأت علاقتي به زميلاً في قسم الدراسات القرآنية إبّان تعييني معيداً فيه قبل ما يقرب من ربع قرن، وأثناء التقديم للإعادة قابلت ذاك الشاب -في حينها- ذا اللحية الشقراء والوجه المستدير المشرب بحمرة زادته هيبة تلك اللحية الشقراء، فتهيبت منه ولما أن جلسنا إلى بعض زالت تلك الهيبة، فرأيت أخاً لطيفاً سمحاً ودوداً هيناً ليّناً، ثم مع مرور الأيام توطدت العلاقة بيننا، وكنت أقول له - ممازحاً - إن فيك عرقاً لطيفاً من أين جاء؟ فقال لي: أنا من مواليد المدينة المنورة، على صاحبها أزكي الصلاة والسلام، فقلت له: الآن عرفت سرّ هذا اللطف.
مضت الأيام وكنا في قسمنا المبارك تحت إدارة شيخنا الفاضل د. محمد بن صالح الفوزان، الذي كنا نعده في مقام الوالد لفضله وعلمه وسنه، ثم آن للشيخ الفوزان أن يغادر رئاسة القسم فلكل بداية نهاية، ورشّح بعده د. محمد العمر.
وكنت على المستوى الشخصي، وهذا سرّ أذيعه ولعله لم يسمعه أحد من قبل، مشفقاً على القسم وعلى أبي فوزان في نفس الوقت، وما ذاك إلا لأن صاحبنا رجل لطيف حبيب سهل، والعمل الإداري قد يتطلب بعض الحزم، ولم ألمس منه شيئاً من الحزم لما ذكرت، إضافة إلى أننا لا نعرف قدراته الإدارية، ولكن مضى القرار وتم التعيين، ثم بدأ الإنجاز في خطوات متتالية منتظمة بإيقاع إداري متناغم.
ومرّ القسم في فترة صاحبنا بمراحل ثلاث عاصرها رئيسنا المحبوب، وأبدع أيّما إبداع في مواكبة القسم لكل جهة ينتقل إليها، وعاصر مرحلة كلية المعلمين، ثم مرحلة انتقال الكلية والقسم إلى وزارة التعليم العالي، ثم مرحلة انتقال القسم إلى جامعة الملك سعود.
ونجح أبوفوزان بشهادة جميع زملائنا وليس مجاملة له، في كل تلك المراحل، فجدّد في القسم، وطوّر الخطط، وأبدع في احتواء الزملاء، وأصبح قسم الدراسات القرآنية -بفضل الله ثم بجهوده وتعاون الزملاء- من الأقسام التي لها شأن في التخصص، واستطاع بفضل الله الحفاظ على القسم في مرحلة صعبة ليبقى قسماً مستقلاً عند انضمامنا لجامعة الملك سعود، ببرنامجين؛ برنامج الدراسات القرآنية وبرنامج القراءات في البكالوريوس، وهذه إضافة نوعية لم تكن موجودة في جامعة الملك سعود.
كما تم فصل قسم التفسير في الماجستير، ليكون برنامجًا مستقلاً عن الحديث وسوف تبدأ الدراسة فيه العام القادم، وتم الانتهاء من فصل قسم التفسير عن الحديث في مرحلة الدكتوراه ببرنامج مستقل وهو الآن في طور الإقرار في الجامعة. كما تم لأول مرة في تاريخ جامعة الملك سعود إنشاء برنامج للماجستير في تخصص القراءات، وتمت مناقشة أول رسالة في هذا البرنامج مؤخراً، وتم رفع خطة لبرنامج الدكتوراه في نفس التخصص القراءات.
وكانت هناك محطات ظهر فيها تميز أبي فوزان الإداري، وذلك حينما تم إنشاء «كرسي تعليم القرآن الكريم وإقرائه» وكان مجالاًجديداً للعمل الذي ظهرت فيه مهارات صاحبنا، وحرصه وتفانيه، وقد عايشت ذلك معه في الكرسي أياما وليالي، وأنجز الكرسي -بحمد الله- في فترة وجيزة عدداً من الأنشطةالعلمية.
لا شك أن الحديث عن مسيرة عقد من الزمن مع صاحبنا يطول، ولكن لعلي أكتفي بإشارات سريعة إلى أبرز عوامل النجاح التي رأيتها في حياة أبي فوازن الإدارية وسماته الشخصية، وأول تلك العوامل شغفه الشديد وحبّه للقسم فقد كان القسم باختصار مشروعه الأول في حياته، كل ذلك نحسبه والله حسيبه أنه احتساباً، وإذا اجتمع حبّ العمل والتفرغ له في شخص رأيت الإبداع والإنجاز.
ثاني تلك العوامل عنايته البالغة بسرعة الإنجاز وبسبب ذلك كان القسم على رأس الأقسام في كلية التربية مع حداثته فيها، وكذلك موضوع الجودة فقد كان قسم الدراسات القرآنية أول قسم من أقسام كلية التربية التسعة ينجز متطلبات الجودة ويتقدم بكامل الملفات للاعتماد الأكاديمي.
ثالثها سدّه لأي فراغ أو خلل قد يحصل من اللجان في القسم وقيامه بذلك بنفسه، فقد كان يتحمل عبئاً كبيراً في متابعة كل الملفات والمشاريع واللجان في القسم، ولذا كنت تراه يسابق العصافير في الغدو صباحاً ويروح معها آخر النهار!
هذه بعض أهم أسباب نجاح أبي فوزان في القسم إبّان رئاسته له، ثم إنه رجل كريم جداً، وأنا أشهد بهذا على المستوى الشخصي من خلال رفقتي له حضراً وسفراً، ولعلي أذيع سراً - وأستأذنه في ذلك - أنه على مستوى القسم كان كثيرًا ما يبذل من ماله الخاص وهذا فضل منه وليس بواجب، ولكن طبيعته في الكرم انسحبت حتى على عمله.
أبو فوزان لم أشهد في يوم من الأيام وقوفه ضد مصلحة أي أحد من الزملاء حتى وإن اختلف معه، نفسه كريمة في الحرص على مصالح زملائه في القسم ويسعى لكل ما فيه خير لهم، ولا أودّ أن أطيل، لكن لعلي وضعت إشارات سريعة تعرّف بجهود أخينا طيلة السنوات العشر التي تشرف فيها بخدمة كتاب الله عبر رئاسته للقسم.
أردت بهذه الخواطر أن أسجل بعض ما نعرفه عنه أنا وزملائي، ولو كتب عنه زملائي في القسم لوفّوه حقه، فأعتذر منهم إن قصرت، وأعتذر منه كل الاعتذار عن التقصير في حقه
وهو رجل كريم من قوم كرام، وأسأل الله أن يثقل بما قدم موازين حسناته وأن يجزيه عنا خير الجزاء وأوفاه وأكمله، دمت موفقًا مسددًا أبا فوزان، فقد أتممت عشراً من عندك، وثبت الأجر إن شاء لله.
أ. د. عيسى بن ناصر الدرييي
أستاذ الدراسات القرآنية
إضافة تعليق جديد