يعد أكثر الناس سعادة من توفرت له أسباب التقدم نحو الأهداف السامية روحياً وجسمياً واجتماعيًا، ويستطيع أن يواجه عوامل الشقاء ويهزمها، ومن أسباب السعادة الزوجة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب البهي، والعاقل يجد السعادة الحقيقية في اتباع هدى الله تعالى «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى».
أما الأسباب المانعة للسعادة والجالبة للشقاء فأبرزها جمود العينين وقسوة القلب وشدة الحرص على الدنيا والإصرار على الذنوب، وقد يشقى الإنسان مع توفر أسباب السعادة، فالذي يسكن في أعماق الصحراء قد يشكو مر الشكوى لعدم وجود ماء الشرب، وساكن أرقى المدن يجد كل ما يحلم به، ولكنه قد يشكو من أمراض العصر مثل السكرى والضغط والاكتئاب وغيرها، والذي أعطاه الله الصحة والمال والزوجة الجميلة قد لا يعرف طعم راحة البال.
الكل يخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة رغم ما يبدو في الظاهر من بعض الفوارق، ورغم غنى الأغنياء وفقر الفقراء، فمحصولهم النهائي من السعادة والشقاء الدنيوي متقارب، ولو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه، ولرأى عدل الله في الموازين الباطنية رغم اختلاف الموازين الظاهرية، فداخل القلوب ترقد الحسرات والآهات والحاسدون والحاقدون والمغترون والفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق.
لو عرفنا الله حق المعرفة لطلبنا الدنيا بعزة الأنفس ولسعينا في العيش بالضمير ولتعاشرنا بالفضيلة، فالعذاب ليس له طبقة وإنما هو قاسم مشترك بين الكل، كما قال الدكتور مصطفى محمود، يتجرع منه كل واحد كأسًا وافية ثم في النهاية تتساوى الكؤوس، وليس اختلاف نفوسنا اختلاف سعادة وشقاء وإنما اختلاف مواقف، فهناك نفس تعلو على شقائها وتتجاوزه وترى فيه الحكمة والعبرة، وتلك نفوس مستنيرة ترى العدل والجمال في كل شيء، وتحمد الله على كل أفعاله، وهناك نفوس تمضغ شقاءها وتجتره وتحوله إلى حقد أسود وحسد أكال، وتلك هي النفوس المظلمة الكافرة بخالقها.
كل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في عالم الآخرة، حيث يكون الشقاء الحقيقي أو السعادة الحقيقية، فأهل الرضا إلى النعيم وأهل الحقد إلى الجحيم، وما الدنيا إلا اختبار لإبراز المواقف، وما اختلاف النفوس وتفاضلها إلا بمواقفها، وليس بالشقاء والنعيم اختلفت، ولا بالحظوظ المتفاوتة تفاضلت، ولا بما يبدو على الوجوه من ضحك وبكاء. فذلك هو المسرح الظاهر الخادع، أما وراء الكواليس وعلى مسرح الحقيقة فلا يوجد ظالم ولا مظلوم، وإنما عدل مطلق، واستحقاق نزيه، يجري على سنن ثابتة، لا تختلف، حيث يمنح الله السلوى الخفية للمحروم، وينير ضمائر العميان، ويلاطف أهل المسكنة ويؤنس المتوحدين في الخلوات ويعوض الصابرين حلاوة في قلوبهم، بينما يطمس على بصائر المترفين ويؤرق عيون الظالمين ويرهق أبدان المسرفين.
وتلك هي الرياح الخفية المنذرة التي تهب من الجحيم، والنسمات المبشرة، التي تأتي من الجنة، والمقدمات التي تسبق اليوم الموعود يوم تنكشف الأستار، وتهتك الحجب، وتفترق المصائر إلى شقاء حق وإلى نعيم حق يوم لا تنفع معذرة، فأهل الحكمة في راحة لأنهم أدركوا هذا بعقولهم، وأهل الله في راحة لأنهم أسلموا إلى الله في ثقة، وقبلوا ما يجريه عليهم ورأوا في أفعاله عدلاً مطلقًا دون أن يتعبوا عقولهم، فجمعوا لأنفسهم بين الراحتين راحة القلب وراحة العقل، فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة الأبدان، أما أهل الغفلة وهم الأغلبية فما زالوا يقتل بعضهم بعضا من أجل شهوات الدنيا الفانية.
وإذا بحثت عن سر السعادة الحقيقية ستجدها في تقوى الله، فمشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، ولذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها، فكن مع الله ولا تبالي ومُدّ يديك إليه في ظُلمات اللّيالي وقُل يا رب ما طابت الدنيا إلاّ بذكرك ولا الآخرة إلا بعفوك ولا الجنة إلا برؤيتك، صافح وسامح ودع الخلق للخالق فنحن وهم راحلون.
وحتى تكون أسعد الناس اجعل الفرح شكراً، والحزن صبراً، والصمت تفكراً، والنطق ذكراً، والحياة طاعة، وكن مثل الطائر يأتيه رزقه كل صباح ومساء ولا يهتم بغدٍ ولا يؤذي أحداً، واجعل قلبك كاللؤلؤ لا يحمل أحقاداً، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، صل صلاة مودع، وارقد كأنك شهيد، ولا تتكلم بكلام تعتذر منه، ولا تنسى أن «حسبنا الله ونعم الوكيل» تطفئ الحريق وينجو بها الغريق ويُعرف بها الطريق.
أ. د. جمال الدين إبراهيم هريسة
كلية الصيدلة
إضافة تعليق جديد