تخطو المملكة اليوم خطوات سريعة لتحقيق نهضة شاملة، عبر تنفيذ مبادرات وبرامج «رؤية 2030»، وبالرغم من ذلك تعدّ الصورة الذهنية التي يمكن أن يكوّنها العالم عنها، وما يعتريها من تشويه أحد أهم القضايا والتحديات الحالية التي تواجهها، لما لها من تأثير يؤدي إلى تكوين انطباعات وخلق سلوك إيجابي أو سلبي تجاه الدولة ومؤسساتها.
فضلًا عما تمرُّ به اليوم من مرحلة حسَّاسة تتطلب حشد الإمكانات والطاقات للتعامل معها بنجاح، وذلك بصياغة استراتيجية شاملة لتفعيل القوة الناعمة السعودية بمساندة رؤيتها الاستراتيجية «2030»؛ لتعزّز من جهودها ومقدرتها على المنافسة العالمية، وتسهم في دعم صُنَّاع القرار على تنفيذ هذه الرؤية وفق مخططها الزمني، والتي من شأنها أن تحدِّد الإطار العام لصورة المملكة وهويتها المؤسسية وآلية عملها، التي من خلالها تستطيع أن تُعبر عن رؤيتها واستراتيجيتها وأهدافها.
إن مفهوم القوة الناعمة يعني «القوة المعنوية لشخصية الدولة، وتتمثل في مجموعة الأفكار والمبادئ والقيم والسياسات الاستراتيجية، التي تستخدمها لغرض الإقناع والتأثير على الرأي العام الداخلي أو الخارجي في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن وغيرها، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره».
وقد أدركت الدول العظمى أهمية هذه القوة وقدرتها على التأثير في قيم وسياسات الدول وشعوبها، فسعت لوضع استراتيجيات وسياسات لتعزيزها وأبدعت في استخدام أساليبها الثقافية والتسويقية والإعلامية لبناء هذه القوة واستثمار أدواتها.
هناك جهود كبيرة بُذِلت مؤخرًا في عدة مجالات لتحسين وتعزيز صورة وسمعة المملكة داخليًا وخارجيًا من قبل عدد من المؤسسات الحكومية والخاصة، مثل «مركز التواصل الحكومي»، و«مشروع سلام للتواصل الحضاري» و«مركز اعتدال»، و«مؤسسة مسك الخيرية» وغيرها، إلا أن العمل الفردي يظل محدودًا، لا سيما إذا كان يتعلق بالسمعة المؤسسية للدولة وصورتها؛ لذا تطلب الأمر عمل إجراءات سريعة في تأسيس عمل مؤسسي موحَّد يتكامل مع الجهود المبذولة ويضمن استمراريتها واستدامتها، وذلك بإنشاء مركز متخصص يعمل على تخطيط وتنظيم وإدارة الصورة والسمعة المؤسسية للمملكة، يشخص الواقع ويستشرف المستقبل، ويكون عبارة عن نظام إنذار مبكر يرصد كل ما يتعلق بمهددات المملكة وصورتها سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وفكرياً وثقافياً ورقمياً.
وقد استبشرنا خيرًا بصدور الأمر الملكي الكريم القاضي بإنشاء «مركز التواصل والاستشراف المعرفي» المرتبط تنظيمياً بالديوان الملكي والذي يهدف إلى جمع وتحليل المعلومات الإعلامية والدراسات والبحوث المتعلقة بالقضايا والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية، ومدى تأثيرها سلبًا أو إيجابًا على صورة المملكة، إذ يعتبر هذا الأمر من أهم القرارات والتوجهات الاستراتيجية لتقييم الصورة الذهنية للسعودية وتصحيحها ومواجهة حملات التشويه والتحريف التي تواجهها، ويشكّل نقطة تحول مهمة في مسيرة صناعة مستقبلها بأبعاده المختلفة.
ما أود التنويه إليه هنا هو أن هناك نخبة من الخبراء قد عملوا على مدى ثلاث سنوات متواصلة في بناء مشروع شامل قد يسهم إسهامًا مباشرًا في تغذية هذا المركز بأفضل تطبيقات العمل الإعلامي والتسويق الاستراتيجي بكل صوره وأدواته وفق أحدث التجارب الإقليمية والدولية، يشمل توحيد جهود كل الجهات الحكومية والخاصة؛ لنقْل قصة المملكة ورسائلها للعالم بطريقة جديدة وعصرية، بما يمكّن الدولة من المضي قدمَاً نحو المستقبل في تناغم وتنسيق أفضل، مما يجعلها أكثر حضورًا في المحافل الدولية ويُرسِّخ احترامها ومحبتها بين شعوب العالم.
إن أهمية مشروع بهذا الحجم، في ظل امتلاك المملكة لمصادر ومقومات اقتصادية واستثمارية كبيرة، سيكون له انعكاسات إيجابية على الصورة العامة للمملكة في الداخل والخارج وتوطيد هويتها المؤسسية، مما يجعلها قادرة على تحقيق أهدافها وترسيخ مكانتها إقليميًا ودوليًا، كما سيمثل بصمة مؤثرة ومهمة للقيادة السعودية الشابة الحالية كقوة داعمة لرؤية 2030.
نتطلع أن تشهد المرحلة المقبلة المزيد من الجهود والتعاون في سبيل الوصول إلى صياغة استراتيجية متكاملة للقوة الناعمة السعودية، ينتج عنها سياسات وأُطر تكاملية ومرجعية تنظم وتوحد الجهود المبذولة والمبادرات المختلفة والأهداف الاستراتيجية، مما يحقق لها منافع اقتصادية وسياسية كبيرة، ويُسهم في اكتساب النفوذ ويجعلها شريكًا مؤثراً وفعالاً في صنع القرارات الدولية.
كما سيخلق شعورًا حقيقيًا بالقوة والانتماء لهذا الوطن، بحيث نكون جميعًا سفراء للمملكة، نحمل واجب إعلاء شأنها لتبقى في قلب المشهد العالمي بنهجها المتميز وقيمها وطموحاتها، وفق الله قيادة المملكة الحكيمة وحكومتها لخدمة الوطن.
زاهر بن أحمد الشهري
باحث تخطيط استراتيجي
جامعة الملك سعود
إضافة تعليق جديد