أصدر الكاتب «إِرِك واينر» كتاباً بعنوان «جغرافيا العبقرية: أكثر الأماكن تحفيزًا للإبداع في العالم من أثينا القديمة إلى وادي السيلكون 2016» وطرح فيه أفكارًا ورؤى عدة تحاول معرفة مصدر العبقرية الإنسانية، بمعنى أين ومتى تزدهر، ووجد في تتبعه الجغرافي والتاريخي أن هناك سمات مشتركة وواضحة في أماكن ظهور العباقرة والمبدعين.
بدأ واينر بحثه مع ست مجموعات تاريخية من العباقرة، ومجموعة أخرى من العصر الحديث، فبحث عن العوامل التي أدت إلى ظهورهم، وتساءل لماذا ظهر «عدد كبير من العقول اللامعة والأفكار النيرة» من أماكن وفي أزمنة معيّنة؟ وجمع في طرحه مزيجًا من مذكرات الرحلات الشخصية وتقارير عن أحدث الأبحاث العلمية والتاريخية، وقدَّم نظرة جديدة وغنية بالمعلومات عن الموضوع الذي ما زال يمثل مَعِينًا لا ينضب من السحر الدائم.
لم يرجح واينر من البداية النظريات التي تناولت سرّ العبقرية، مثل نظرية العالم البريطاني في القرن التاسع عشر السير فرانسيس گالتون التي تربط بين العبقرية والوراثة، أو قاعدة العشرة آلاف ساعة تدريب التي ذكرها مالکوم گلادول في كتابه “المتميزون” وأشار فيها إلى أن الإبداع هو نتاج العمل الجاد الدؤوب.
بدلا من ذلك، فقد استرشد في بحثه بأعمال دين كيث سيمنتُن، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا دايفس، ورائد القياسات التاريخية في دراسة “العصور التي ظهر فيها الفنُ الجميل، والفلسفةُ الرائعة، والاكتشافات العلمية” وهي قياسات إحصائية تُطبق رؤى العلوم الاجتماعية.
شرع واينر في رحلة جابَ خلالها مناطق عديدة من العالم، أخذته إلى أثينا، وهانغتشو، وفلورنسا، وأدنبرة، وكلكتا وفيينا، وفتش في السجلات والوثائق التاريخية عن الخيوط والدلائل التي جعَلت هذه المدن استثنائية في عصورها المزدهرة، وقارن تلك الدلائل مع ظروف العصر الحالي، وأنهى رحلته الطويلة في وادي السيليكون ووصفه بأنه “المظهر الأخير من مظاهر النكهة الأمريكية للعبقرية”.
ومع تقدير واينر لأفكار سيمونتون، إلا أنه في كتابه «جغرافيا العبقرية» تناول موضوع الإبداع من عدة أوجه، وذكر أنه من الصعب الاعتماد على مقياس واحد لتفسير عبقرية الإنجازات الفكرية الرائعة في أثينا عصر بريكليس، وفن ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو في فلورنسا عصر النهضة، أو موسيقى موزارت وبيتهوفن وهايدن العظيمة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في فيينا.
ثم حدد واينر الظروف العديدة التي وفرت تُربة خصبة لظهور العبقرية وتجذرها، وعلى رأسهاالاختلاط بين الثقافات المتنوعة في أثينا القديمة بقوله: “لا شيء يقتل الإبداع أكثر من العزلة”، كما ذكر دور هيمنة السياسية الإنگليزية التي كانت سمة من سمات التنوير الاسكتلندي في القرن الثامن عشر، وكذلك دور عصر النهضة الهندية في البنغال التي امتدت خلال الفترة 1840-1920، أو مقاهي سيجموند فرويد في عصر فيينا التي وصفها بأنهّا “كاتدرائيات دنيوية، وحاضنات للأفكار، ومفترق طرق فكرية”.
من أهم ما فعله واينر في كل مدينة يزورها، أن يلتقي بصحفي أو كاتب مُطلع اطلاعًا واسعًا في تاريخ وثقافة المدينة، ففي أثينا صادف أن يكون اسم مرشده السياحي أرسطو، وقاده هذا اللقاء إلى حديث مع فيلسوف يوناني يدعى نيكوس ديمو، الذي يعترف أنه لا يقرأ لأفلاطون ولا يحبه، والتقى في هانغتشو مع الملياردير الصيني «جاك ما» مؤسس مجموعة علي بابا، الذي يعزو ضعف الابتكار في الصين الحديثة إلى تخلي البلاد عن الممارسات التقليدية القديمة مثل الفلسفة الطاوية.
وختم الكتاب بفصل عن وادي السليكون، وهو الفصل الأقصر، ربما لأن قصة الابتكار التقني معروفة، أو ربما أنه متردد في أن يصف هذه المنطقة بالعبقرية، وقال عن الثقافة التقنية الفائقة التي ازدهرت هنا: “إذا كان لها أن تستمر، فلا بد أن تجد مصادر بديلة للطاقة، وطرق جديدة إبداعية، وليس مجرد إنتاج منتجات جديدة”.
ويلخص واينر رحلته المحفزة بتحديد ثلاث سمات ترافقت مع ظهور العبقرية وهي: الاختلاط والتنوّع والتميز، وهذه السمات الثلاث التي تشترك بها وبشكل مثير جميع الأماكن التي وصفت بمنبع العبقرية.
إضافة تعليق جديد