في زمن تتسارع فيه وتيرة الحداثة والتحولات التقنية والاجتماعية، يظل كبار السن أشبه بالأشجار الراسخة، تضرب جذورها في عمق التاريخ وتحمل فوق أغصانها ثمار الحكمة وتجارب الحياة. فالمعارف التقليدية، التي تناقلتها الأجيال شفهيًا على مدار قرون، وجدت ملاذها الآمن في صدور من عاشوا تفاصيل الحياة بكل ما فيها من مواقف وأحداث. فهم حراس الذاكرة الشعبية، وسدنة المعارف المتوارثة التي تُنسَج من تفاصيل الحياة اليومية، من الحكايات والأمثال إلى الأهازيج والعلاجات والعادات التي ظلّت تنتقل من جيلٍ إلى آخر.
وتؤكد دراسات الأنثروبولوجيا الثقافية، أن هذه المعارف ليست عشوائية أو ارتجالية، بل تشكّل نظامًا معرفيًا نابعًا من التفاعل الطويل بين الإنسان وبيئته، وقد اعتمدت المجتمعات التقليدية على كبار السن بوصفهم مراجع معرفية لا غنى عنها، فهم بمثابة مكتباتٍ متنقلة تضم خلاصة الفهم الشعبي للزراعة والطب والمواسم والنجوم والحِرَف والعلاقات الاجتماعية، وتلك الحِكايات والأساطير التي شكلت وجدان المجتمعات؛ إذ لم تكن هناك حاجة إلى الكتب ما دام المسن حاضرًا، يستحضر المعلومة من الذاكرة، ويقدّمها بلغة الخبرة.
وقد عبّر العرب عن قيمة الكبار منذ القدم "من لا كبير له، فليس له تدبير"، وذهبوا أبعد حين قالوا: "عندما يموت شيخٌ، تحترق مكتبة"، وهي حقيقة، فحين نفقد كبيرًا في السن، لا نخسر شخصًا فحسب، بل نخسر حكمة كاملة وتجربة إنسانية لا تُعوَّض. ففي القرى والبوادي، يعرف الفلاح متى يزرع ويجني لا بتقويمٍ رقمي بل بنظرته إلى القمر أو طلوع نجم أو تفتّح زهرة، ويعرف الصياد موسم الصيد وتوقيت البحر من لون الماء، وتُشخّص القابلة الحمل دون جهاز. كل هذه المعارف لا توجد في كتب، بل في صدور أولئك المسنّين الذين يتكئون على عِصيّ الحكمة، لا الشك.
وتقديرًا لهذا الدور الحيوي، أطلقت منظمة اليونسكو مفهوم "الكنوز البشرية الحية" لوصف الأفراد الذين يمتلكون مهارات ومعارف تقليدية نادرة، تشكّل جزءًا أصيلًا من التراث الثقافي غير المادي للبشرية. ويشمل هذا الوصف الحرفيين، والرواة، والمغنين الشعبيين، والممارسين للطب التقليدي، وغيرهم ممن يحملون قدرة استثنائية على نقل الثقافة المحلية إلى الأجيال المقبلة، إذ لا ترى اليونسكو في هؤلاء مجرد أفراد، بل تعتبرهم مستودعات حيّة يجب الحفاظ عليها، وإشراكها في برامج التعليم والتوثيق الثقافي.
وفي زمن بدأت فيه روابط الأجيال تتآكل، وتبهت الصلات بين الماضي والحاضر، تبرز الحاجة الملحّة إلى دمج كبار السن في مسارات التعليم، والمراكز الثقافية، والبرامج الإعلامية، ليس كضيوف شرف، بل كشركاءٍ في صياغة الوعي الجماعي، وأن نُصغي إلى حكاياتهم لا كترفٍ ثقافيٍ عابر، بل كخيوطٍ متينة تنسج رؤى متكاملة عن الإنسان، والطبيعة، والقيم التي تُشكّل جوهر وجودنا.
د. ياسر هاشم الهياجي
كلية السياحة والآثار