Skip to main content

من الرياض إلى مؤتمر المناخ (COP30): قراءة لتجربة الجامعة في العمل المناخي والبيئي

د. علي سعيد الغامدي
بقلم: د. علي سعيد الغامدي
تم النشر في: منذ 11 دقيقة

 

مع انعقاد المؤتمر الثلاثين للأمم المتحدة لتغير المناخ (COP30)، تتجدد الحاجة إلى قراءةٍ واقعية للتحولات التي يشهدها العالم في العمل البيئي ككل، وإلى تعزيز الوعي بأن مواجهة التغير المناخي ليست معركة، بل أمر يتطلب البحث عن انسجامٍ جديد بين الإنسان وبيئته. فوفقًا لأحدث التقارير العلمية، تشهد الأرض تسارعًا غير مسبوق في معدل ارتفاع درجات الحرارة خلال هذا العقد، إذ بلغت وتيرة الاحترار العالمي نحو خمسين في المئة أعلى مما كانت عليه في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة. كما أن مستوى سطح البحر يرتفع حاليًا بمعدل (4.5) مليمترات سنويًا مقارنة بـ (1.85) مليمتر خلال العقود التي تلت عام 1900، فيما تشير تقديرات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى أن العالم قد ارتفعت درجة حرارته بالفعل بمقدار يتراوح بين (1.3) و (1.4) درجة مئوية عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ما يعني اقتراب الأرض من تجاوز عتبة (1.5) درجة مئوية — وهي النقطة التي يحذر العلماء من بلوغها لما تحمله من تبعاتٍ بيئية واقتصادية واجتماعية.

غير أن هذه الحقائق لا ينبغي التعامل معها بالمبالغة أو الانفعال، بل تستدعي عملًا علميًا جادًا ورؤية عقلانية تُدرك أن الإنسان ليس في صراعٍ مع الطبيعة، بل في علاقة تكاملٍ معها. فمواجهة التغير المناخي تتطلب التوازن بين ضرورات التنمية البشرية ومتطلبات الحفاظ على البيئة، وهو توازن لا يتحقق إلا بالعلم، والبحث، والإدارة المستدامة الواقعية. إن الحل لا يكمن في التوقف عن التقدم، بل في توجيه التنمية نحو مساراتٍ أكثر استدامة، بما يجعل من العلم والإبداع أدواتٍ رئيسة لإعادة صياغة فهم علاقة الإنسان بكوكب الأرض.

وفي هذا الإطار، تبرز الجامعة كأنموذجٍ وطني رائد يجسد الفهم المتزن للعلاقة بين الإنسان وبيئته، إدراكًا منها أن مواجهة التحديات البيئية لا تُبنى على ردود الفعل المؤقتة، بل على العمل العلمي المنهجي والتخطيط المستدام الذي يوازن بين ضرورات التنمية ومتطلبات حماية البيئة. ومن هذا المنطلق، تبنت الجامعة نهجًا مؤسسيًا متكاملًا يدمج مفاهيم الاستدامة بما فيها العمل المناخي في منظومتها التعليمية والبحثية والمجتمعية، انسجامًا مع مرتكزات رؤية المملكة 2030 ومبادرتي "السعودية الخضراء" و"الشرق الأوسط الأخضر" اللتين تمثلان نهجًا وطنيًا لبناء مستقبلٍ أكثر توازنًا وازدهارًا لكوكب الأرض. وتتجلى جهود الجامعة من خلال التزامها العملي بهذه المرتكزات، التي تشكّل الإطار الإستراتيجي لرسالتها البيئية. فهي تسهم في بناء مجتمعٍ حيوي عبر تعزيز الوعي البيئي وترسيخ ثقافة المسؤولية المستدامة بين منسوبيها وطلبتها وأفراد المجتمع، وتعمل على دعم اقتصادٍ مزدهر من خلال الأبحاث والابتكارات في مجالات الطاقة المتجددة، والتقنيات النظيفة، وإدارة الموارد الطبيعية، كما تجسد مفهوم الوطن الطموح عبر منظومة حوكمةٍ فعّالة وتمكين الكفاءات الأكاديمية والبحثية، وتطوير شراكاتٍ محلية ودولية تُسهم في ترسيخ مكانة الجامعة والمملكة كمركزٍ علمي عالمي في قضايا المناخ والاستدامة.

وانطلاقًا من التزامها المؤسسي بترسيخ مبادئ الاستدامة وتحويلها إلى ممارساتٍ عملية داخل الحرم الجامعي، عملت الجامعة—من خلال اللجنة الدائمة لاستدامة البيئة والطاقة المتجددة وإدارة الاستدامة وتطوير البيئة— على تنفيذ منظومةٍ متكاملة من الخطط والمبادرات النوعية لتعزيز كفاءة استخدام الطاقة في مرافق الجامعة، وتحسين إدارة المياه والنفايات وفق أعلى المعايير المهنية، إلى جانب التوسع في المسطحات الخضراء ضمن خططٍ مستدامة طويلة المدى. ويأتي هذا التوجه الإستراتيجي تجسيدًا لحرص الجامعة على الإسهام الفاعل في دعم مستهدفات المملكة المتعلقة بتحقيق الحياد الصفري، وضمان مواءمة عملياتها التشغيلية والبيئية مع التوجهات الوطنية الرامية إلى تعزيز مسار التنمية المستدامة. كما يعكس الدور المتنامي للجامعة في تبني أفضل الممارسات الدولية في مجال "الجامعات الخضراء"، وتطبيقها داخل البيئة الجامعية وفق إطارٍ تنظيمي متكامل يضمن توفير بيئة تعليمية وصحية متقدمة، وينسجم مع مبادئ المدن والجامعات المستدامة، بما يعزز مكانتها كمؤسسةٍ أكاديمية رائدة على المستويين الوطني والإقليمي.

وفي المجال البحثي، تُعدّ الجامعة ركيزة وطنية في إنتاج المعرفة البيئية وتوطين تقنيات وخبرات الاستدامة من خلال منظومةٍ بحثية متكاملة تضم الأقسام الأكاديمية والمراكز البحثية، إلى جانب عددٍ من الكراسي البحثية المتخصصة في مجالات المياه والطاقة المتجددة والتغير المناخي والموارد الطبيعية. وتعمل هذه المنظومة في شكلٍ متكامل على تطوير حلولٍ علمية تطبيقية تسهم في تعزيز كفاءة استخدام الموارد الطبيعية، والحد من الانبعاثات، وتحسين إدارة المياه والطاقة بما يتوافق مع أولويات رؤية المملكة 2030 والمبادرات الوطنية. كما تُسهم هذه الجهود في تحويل المعرفة إلى ممارسةٍ عملية عبر مشاريع ميدانية رائدة مثل مشروع إعادة استخدام المياه المعالجة الذي يُعد من النماذج الناجحة في تحقيق كفاءة المياه داخل الحرم الجامعي، ومبادرة تقليل الانبعاثات الكربونية الناتجة عن استهلاك الطاقة، إضافةً إلى مبادرات إعادة تدوير النفايات وترشيد الاستهلاك في المباني الجامعية، ما يجعل من الحرم الجامعي بيئةً تجريبيةً حية للابتكار الأخضر والعمل المناخي المؤسسي. وقد تُوجت هذه الجهود بإنجازاتٍ دولية بارزة للجامعة، منها تحقيق جائزتي "أفضل مستشفى سعودي" و"أفضل مبادرة لتحسين المرافق وإدارة المباني (المستشفيات الخضراء)" ضمن جوائز آسيا للرعاية الصحية لعام 2024، وهو اعتراف يعكس نجاح الجامعة في ترسيخ معايير الاستدامة، ويجسد قدرتها على الجمع بين التميّز الأكاديمي والتشغيلي في آنٍ واحد.

ولا تقتصر جهود الجامعة على البحث والسياسات، بل تمتد إلى بناء ثقافة الاستدامة كقيمةٍ تعليمية ومجتمعية. فقد أدرجت الجامعة مفاهيم البيئة والتنمية المستدامة في برامجها الأكاديمية العامة والتخصصية عبر برامج نوعية تُعنى بالبيئة والطاقة والموارد الطبيعية، وفعّلت مبدأ “الجامعة الخضراء” من خلال مبادراتٍ طلابية ومجتمعية تستهدف تعزيز الوعي البيئي والسلوك المسؤول، مثل حملات التشجير وبرامج التوعية بترشيد الطاقة والمياه والمعارض والندوات البيئية. ومن ذلك إسهامات الأندية الطلابية في مبادراتٍ بيئية متميزة، كان من أحدثها مبادرة "نحو عالم نقي" الرامية إلى تعزيز الوعي البيئي والمسؤولية المجتمعية. وتعمل الجامعة من خلال هذه الجهود على غرس قيم المواطنة البيئية وتمكين طلبتها من أن يكونوا فاعلين في مواجهة التحديات المناخية والبيئية، عبر التعليم القائم على التجربة والمشاركة. فالتربية البيئية التي تنتهجها الجامعة تقوم على العلم والممارسة الواعية، مما يُمكن من بناء جيلٍ يمتلك الوعي والقدرة على المشاركة في صياغة مستقبلٍ مستدام يعزز التوازن بين التنمية وحماية البيئة.

إن مؤتمر (COP30) لا يمثل محطة تفاوضية، بل فرصة للتأمل في مستقبل الكوكب وفي مسؤوليتنا الجماعية نحوه. وفي هذا الأفق، تبرز الجامعة كتجربةٍ مضيئة تُظهر أن مواجهة التغير المناخي ليست معادلة تفاوضية فحسب، بل عمل يحتاج إلى العلم والإبداع والإدارة الواعية معًا. ومن هذا المنطلق، تمثل تجربة الجامعة تجسيدًا عمليًا لمفهوم أن التنمية المستدامة والعمل البيئي ليسا طرحًا نظريًا، بل مسارًا تتلاقى فيه المسؤولية مع الطموح، لتحقيق توازنٍ واعٍ بين الإنسان والطبيعة التي تحتضنه.

 

د. علي سعيد الغامدي

أستاذ علم المناخ والتخطيط المناخي المشارك