حين نعود إلى تراثنا الإسلامي الخصب، نجد فيه صفحاتٍ مشرقة تعاملت مع الإنسان بتقديرٍ واحترام، ومن بين تلك الصفحات يبرز فكر الإمام أبي محمد علي بن حزم الأندلسي، الذي قدم رؤية تجاه المرأة تميزت بالإنصاف والواقعية، بعيدًا عن الغلو أو التقصير. لم تكن نظرة ابن حزم مجرد آراءٍ فقهية جافة، بل كانت نتاج تجربةٍ حياتية عميقة وفهمٍ دقيق لنصوص الشريعة، حيث رأى أن العدل يقتضي إعطاء كل ذي حق حقه، وأن اختلاف الطبيعة بين الرجل والمرأة لا يعني أبدًا ظلم أحدهما أو الانتقاص من قدره، بل هو تنوع تتكامل به الحياة.
لقد تأسس هذا الفهم المنصف لدى ابن حزم منذ نعومة أظفاره، فقد نشأ نشأة فريدة بين النساء، وهن اللواتي تولين تربيته وتعليمه في طفولته. يعترف هو بفضلهن عليه في كتابه الشهير "طوق الحمامة" قائلًا: "لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن... وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرًا من الأشعار، ودربنني في الخط".(ص 166، ت: إحسان عباس) هذه التربية جعلته يدرك عن قرب أن المرأة تمتلك عقلًا واعيًا، وقلبًا حافظًا، وقدرة على الفهم والتعليم، مما جعله يرفض النظرة التي تحصرها في زاويةٍ ضيقة أو تظن بها الجهل.
وانطلاقًا من هذا التقدير، تعامل ابن حزم مع النصوص الشرعية بالمنهج الذي يلتزم بالنص ولا يحمل المرأة أوزارًا لم يأت بها الشرع. فعند حديثه عن قضايا العقل والدين، لم يفهم "النقص" على أنه عيب في التكوين البشري للمرأة، بل رآه تخفيفًا ورحمة من الله في التكاليف، مراعاةً لظروفها الخاصة. وبناءً على ثقته في أهليتها، ذهب في كتابه "المحلى" إلى جواز تولي المرأة منصب القضاء والحكم بين الناس، طالما توافرت فيها شروط العلم والعدالة، مستدلًا بأن الأصل في الحكم هو القدرة على إقامة العدل، يقول في ذلك: "جائز أن تلي المرأة الحكم، وهو قول أبي حنيفة... وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه ولى الشفاء -امرأة من قومه- السوق".(8/227)، علما بأن هذا القول مرجوح، ولم تصح نسبة ذلك القول والعمل إلى أبي حنيفة وعمر بن الخطاب.
وفي الجانب الإنساني والاجتماعي، دافع ابن حزم عن وفاء المرأة وصدق مشاعرها، رافضًا تعميم صفة الغدر أو الخيانة عليهن، بل رأى أن في النساء من الوفاء وحفظ الأسرار ما قد يفوق الرجال أحيانًا. يذكر في "طوق الحمامة" مادحًا كتمانهن للأسرار: "وما رأيت قط امرأة كشفت سر متحابين، ولا باحت بأمرٍ ائتمنها عليه أحد... وهذا من طباعهن عجيب". (ص 164). كما نظر إلى العلاقة بين الزوجين نظرة تكامل ورحمة، مؤكدًا أن القوامة مسؤولية ورعاية وليست تسلطًا، وأن الواجب هو المعاشرة بالمعروف.
وفي الختام، يتضح لنا أن ابن حزم كان نموذجًا للفقيه المنصف، فهو لم يتجاهل الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة، ولم يسع للخلط بين أدوارهما، بل احترم خصائص كل طرف. لكنه في المقابل، رفض العادات الاجتماعية التي تظلم المرأة باسم الدين. لقد كان منهجه قائمًا على العدل. فوضع الرجل في مكانه، والمرأة في مكانها، معطيًا كل ذي حق حقه، ليؤكد أن الشريعة جاءت لحفظ كرامة الجميع.
ياسر أسعد
قسم اللغة العربية