Skip to main content

سباق شرس في سوق التوصيل السعودي... وخروج «شقردي» يثير التساؤلات

العنود صالح الدغيّم
بقلم: العنود صالح الدغيّم
تم النشر في: منذ 3 أسبوع

إذا أردت أن تلمس التحوّل في نمط الحياة السعودي اليوم، فلن تحتاج أكثر من النظر إلى شاشة هاتفك؛ عشرات التطبيقات، ملايين الطلبات، وحركة مستمرة خلال «الآخر ميل»،   الذي أصبح ميدان المنافسة الحقيقي في الاقتصاد الرقمي.

فمنذ جائحة كورونا، أصبح التوصيل ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة ضمن نمط الحياة اليومية في المدن السعوديةومع هذا الطلب المتنامي، ولدت منافسة محتدمة بين الشركات، دفعت بعضها إلى الواجهةوأسقطت أخرى.

وفي نهاية أكتوبر 2025، أعلنت شركة شقردي عن خروجها من السوق السعودي بعد ست سنوات من إطلاقها، مبرّرة القرار بسياسة  «حرق الأسعار» والمنافسة غير المتكافئةالخبر لم يكن عاديًا، بل مثّل صدمة في سوقٍ يبدو متخمًا باللاعبين، لكنه في الحقيقة لا يزال في طور التشكل.

نمو متواصل في قطاع توصيل الطلبات بالمملكة

بحسب بيانات الهيئة العامة للنقل، سجل قطاع نشاط الطلبات في المملكة نموًا ملحوظًا خلال الربع الثالث من عام 2025، إذ تجاوز إجمالي عدد الطلبات المنفذة أكثر من 101 مليون عملية على مستوى مناطق المملكة، ما يعكس النمو المتواصل في خدمات توصيل الطرود وارتفاع الطلب على التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجستية.

ويُعزى هذا النمو اللافت إلى مجموعة من العوامل، أبرزها تطوير الأنظمة والتشريعات التي مكّنت الشركات من رفع جودة خدماتها وكفاءتها التشغيلية، إلى جانب تعزيز البنية التحتية الرقمية ودعم الابتكار التقني في مجالات الخدمات اللوجستية.

كما أسهمت التحولات في سلوك المستهلكين والاعتماد المتزايد على التجارة الإلكترونية في رفع حجم الطلب على خدمات التوصيل، بالإضافة إلى الاستثمارات المتنامية في الحلول التقنية الحديثة التي عززت سرعة الاستجابة ورفعت مستوى التنافسية داخل السوق.

توزيع الطلبات حسب المناطق

ووفقًا للبيانات الإحصائية الصادرة عن الهيئة، جاءت منطقة الرياض في الصدارة من حيث عدد الطلبات، بعد تسجيلها أكثر من 43.5 مليون عملية طلب (ما يعادل 43% من الإجمالي)، تلتها منطقة مكة المكرمة بـ 22.7 مليون عملية طلب (22%)، ثم المنطقة الشرقية بـ 16 مليون عملية طلب (١٦٪)

وفي المرتبة الرابعة، جاءت منطقة المدينة المنورة بنحو 4.9 ملايين طلب (5%)، تلتها منطقة عسير بـ 4.1 ملايين طلب (4%)، ثم منطقة القصيم بـ 2.8 مليون طلب (٣٪)

وسجلت منطقة تبوك نحو 1.8 مليون طلب (2%)، تلتها منطقة حائل بـ 1.7 مليون طلب (2%)، وأخيرًا منطقة جازان بـ 1.2 مليون طلب (1%)، فيما توزعت بقية الأرقام على باقي مناطق المملكة.

مستقبل القطاع وحجمه الاقتصادي

يُتوقع أن يصل حجم سوق تطبيقات التوصيل في المملكة العربية السعودية إلى حوالي 8.33 مليار دولار أمريكي في عام 2025. بلغ حجم السوق حوالي 7.05 مليار دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن ينمو ليصل إلى 50 مليار ريال سعودي بحلول عام 2026. تُعزى هذا النمو إلى زيادة الاعتماد على الهواتف الذكية، وتحسن البنية التحتية الرقمية، والتغير في سلوك المستهلك.

 من يسيطر على السوق؟

هيمنة السوق لا تزال في يد لاعبين محليين كبار مثل هنقرستيشن وجاهز، اللذين يتقاسمان غالبية الحصة السوقية وبحسب دراسة حديثة، فإن هنقرستيشن تُعتبر التطبيق الأكثر استخدامًا في السعودية بنسبة تتجاوز 55% من المستخدمين، تليها جاهز بنسبة أقل، ثم منصّات صاعدة مثل ذا شفز ومرسول. في المقابل، يبرز دخول منافس عالمي جديد؛ تطبيق KeeTa   التابع شركة ميتوان (Meituan) ، وهو عملاق صيني في مجال التوصيل وخدمات الإنترنت  والذي استطاع خلال أربعة أشهر فقط أن يحتل المركز الثالث في السوق السعودي، بفضل سياسة إلغاء رسوم التوصيل وتقديم خصومات ضخمة.

هذه الاستراتيجية أثارت نقاشًا واسعًا حول جدوى المنافسة العادلة، إذ يرى البعض أنها قد تدفع السوق إلى فقاعة تسعيرية يصعب استمرارها دون دعم مالي ضخم.

معادلة الاقتصاد اللوجستي- من يكسب السباق؟

قطاع التوصيل يقوم على معادلة دقيقة تجمع بين ثلاثة عناصر:

المستهلك الذي يبحث عن السعر الأدنى والتوصيل الأسرع.

المندوب الذي يريد أجورًا مجزية وحوافز مستدامة.

الشركة التي تحاول تحقيق الربحية في سوق يحكمه الضغط السعري المستمر.

توازن هذه المعادلة ليس سهلاً، فحرق الأسعار لجذب العملاء يؤدي غالبًا إلى نزيف مالي طويل المدى، وهو ما واجهته شركات عديدة.

بالمقابل، تتجه بعض المنصات إلى تعزيز الكفاءة التشغيلية واستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل الطلبات وتوجيه المناديب لتقليل الزمن والتكاليف.

 من التنظيم إلى الاستدامة

خلال العامين الأخيرين، شددت الهيئة العامة للنقل الرقابة على نشاط توصيل الطلبات، وفرضت الحصول على تراخيص تشغيلية وتسجيل المركبات والسائقين تحت أنظمة محددة.

هذا التنظيم أسهم في رفع جودة الخدمة وحماية العملاء، لكنه زاد أيضًا من التكاليف التشغيلية للشركات الصغيرة.

كما بدأت بعض الشركات في تبني حلول التوصيل الأخضر باستخدام الدراجات الكهربائية والمركبات منخفضة الانبعاثات، في إطار رؤية 2030 التي تركز على الاستدامة البيئية.

 قصة «شقردي»  جرس إنذار للسوق 

تطبيق شقردي لم يكن هامشيًا،  فقد دخل السوق عام 2019 ونجح في بناء قاعدة عملاء واسعة، وامتاز بخدمة التوصيل الشخصي المرن.

لكن التغير السريع في ديناميكية السوق، مع دخول لاعبين جدد يملكون ميزانيات ضخمة، جعل الحفاظ على الحصة السوقية شبه مستحيل.

خروج شقردي يُعد مثالاً واضحًا على أن النمو لا يساوي الاستدامة، وأن التوسع دون كفاءة تشغيلية يؤدي إلى النهاية نفسها مهما كان الولاء الشعبي.

مستقبل القطاع بين الذكاء الاصطناعي والتكامل التقني

يتجه السوق السعودي اليوم نحو نموذج المنصات المتكاملة التي تجمع بين المطاعم والمتاجر والبقالات والخدمات السريعة تحت مظلة واحدة

كما تتسارع الاستثمارات في التحليل التنبؤي لتوقّع الطلب في الأحياء، واستخدام الروبوتات والطائرات المسيرة (Drones) في التوصيل التجريبي.

من المتوقع أن يؤدي هذا التحول إلى إعادة تعريف مفهوم  «الآخر ميل»،  وتحويله من خدمة بشرية إلى منظومة ذكية مؤتمتة بالكامل.

من ينجو هو من يُحسن التشغيل

قطاع توصيل الطلبات في السعودية لم يعد مجرد قطاع خدماتي؛ بل هو محرّك اقتصادي وتقني ضخم يُسهم في خلق الوظائف، وتمكين الاقتصاد الرقمي، وتحسين تجربة المستهلك.

لكن هذا السوق لا يرحم: المنافسة فيه قاسية، والسقوط فيه سريع، والنهوض يحتاج إلى ابتكار تشغيلي لا تمويل مؤقت.

خروج  «شقردي» لم يكن نهاية شركة بقدر ما هو إشارة تحذير لسوقٍ يعيد تعريف البقاءعلى أسس جديدة.

العنود صالح الدغيّم

كاتبة مهتمة بالاقتصاد والاستثمار