Skip to main content

ثمرات حماية المؤشرات الجغرافية ... (الهوية وتعزيز جودة الصناعة الوطنية)

خالد موسى آل جساس
بقلم: خالد موسى آل جساس
تم النشر في: منذ 17 ساعة

 

لم تعد المنتجات الزراعية أو الحرفية مجرد سلع تُباع وتشترى؛ فثمة ما يجعلنا - من حيث لا نشعر - نميل إلى منتجٍ يرتبط بمكانٍ ما، ونثق بجودته حتى قبل أن نعرف قصته. نتردد في تفسير هذا الشعور بادئ الأمر، ثم ندرك أن للمكان أثرًا لا يُرى … هويةٌ تُميز المنتج وتجعله مختلفًا، تحمل في طياتها طابعًا اقتصاديًا وثقافيًا خاصًا بالمكان الذي نشأ فيه، نستطيع تمييزه وإن لم نزر تلك الأرض قط.

ومن هذا المنطلق جاء نظام حماية المؤشرات الجغرافية في المملكة العربية السعودية؛ ليضع إطارًا قانونيًا واضحًا يحفظ خصوصية المنتج المرتبط ببيئته، ويمنع استغلال أسماء المناطق دون ارتباط حقيقي بجودتها أو سمعتها.

المؤشر الجغرافي -وفقًا لتعريف النظام- هو البيان الذي يحدد منتجًا بمنشئه الجغرافي، عندما تكون جودة المنتج أو سمعته أو سماته مرتبطة بصورة جوهرية بذلك المنشأ. وهذا يعني أن القيمة هنا لا تكمن في "المكان" فقط، وإنما فيما يُكسبه المكان من طابع، وسمعة، وخصائص تجعل المنتج مختلفًا عن غيره، كما هو الحال في الورد الطائفي، وعجوة المدينة، وزيت زيتون الجوف، وقهوة جازان، والبشت الحساوي وغيرها من المنتجات التي التصقت بذاكرة المستهلكين ارتباطًا بالمكان وليس بالمادة وحدها.

حماية لها أبعاد اقتصادية وثقافية

يهدف النظام إلى ضمان الارتباط الفعلي بين المنتج ومنشئه، ومنع أي استخدام مضلّل لأسماء المناطق. وهذه الحماية ليست شكلية، إذ تمتد آثارها إلى تعزيز ثقة المستهلك، ورفع قيمة المنتجات المحلية، ودعم المنتجين التقليديين والمزارعين والحرفيين الذين يقومون على إنتاج هذه السلع وفق معايير خاصة وموروثة.

فالمكان في هذا السياق لا يُعدّ مجرد "اسم" يوضع على المنتج، بل عنصرًا رئيسيًا في تكوين جودته وسمعته. ولذلك يتطلب تسجيل أي مؤشر جغرافي إعداد دليل استعمال يُبيّن خصائص المنتج، وطريقة إنتاجه، وعناصره الداخلة في تركيبه، والمنطقة الجغرافية الخاصة به. هذا الدليل هو الضمانة الأساسية التي تفرض على كل من يستخدم المؤشر الالتزام بمعايير موحدة، مما يمنع الغش ويعزز النزاهة التجارية.

نظام قادر على ضبط السوق ومنع الاستغلال

يتيح النظام الاعتراض على قرارات التسجيل أو الرفض أو الشطب خلال ستين يومًا، أمام لجنةٍ مختصة، مع إمكانية التظلم أمام المحكمة المختصة. كما يضع قواعد رقابية واضحة تُفعّل عند مخالفة دليل الاستعمال، بما يحفظ حقوق المستهلكين ويمنع الممارسات التجارية المضللة.

وتشمل الحماية ثلاثة أنواع من المؤشرات: (1- المؤشرات الجغرافية الوطنية المسجلة، 2- المؤشرات الأجنبية المحمية في بلدها الأصلي. 3- المؤشرات المحمية بموجب الاتفاقيات الدولية التي تشارك فيها المملكة).

هذا التنوع في نطاق الحماية يعكس رغبة المملكة في الاستفادة من الممارسات الدولية وتعزيز مكانتها في منظومة التجارة العالمية، وإضفاء طابعها الفريد المستمد من الشريعة الإسلامية؛ لتتناسب مع هوية المملكة الأصيلة.

عوائد اقتصادية تعود على الوطن والمستهلك

تسهم حماية المؤشرات الجغرافية في بناء سوقٍ أكثر شفافية ونزاهة وتنافسية، وتحد من التقليد والغش، وترفع القيمة الاقتصادية للمنتجات المحلية، عبر تقديم سلع أصيلة ذات جودة مثبتة ومعايير واضحة. كما تمنح المنتجين أصحاب الخبرة المتوارثة فرصة عادلة للحفاظ على مكانتهم في مواجهة المنتجات التجارية الدخيلة.

فالمنتج الذي يحمله المكان في اسمه وروحه وجودته، يصبح عنصرًا يروي قصة الأرض، ويعكس تنوع المملكة وغنى بيئاتها، ويُعيد الاعتبار للموروث الزراعي والحرفي، ويعزز ثقة المستهلك فيما يشتريه.

نحو بيئةٍ تجارية أصيلة ومحمية

إن حماية المؤشرات الجغرافية ليست مجرد تشريع جديد، بل هي خطوة حضارية تؤكد توجه المملكة نحو دعم الصناعات الوطنية، وحماية هوية المنتجات، والمساهمة في تعزيز جودة السلع المتداولة في الأسواق، وتضفي عليها قيمة مضافة، بما يحقق مصلحة المستهلك ويخدم الاقتصاد الوطني.

وختامًا، فإن النظام يفتح الباب أمام مرحلةٍ جديدة يكون فيها المكان جزءًا من العلامة، والجودة جزءًا من الهوية، والمستهلك جزءًا من الحماية.

وهي رؤية تُجسّدها المملكة اليوم عبر تنظيمٍ متقدم يُعلي من قيمة المنتج الأصيل ويُحصّن سمعة مَنْشَئِه.

 

المحامي/ خالد موسى آل جساس

وكيل ومسؤول إنفاذ ومدرب معتمد من الهيئة السعودية للملكية الفكرية