Skip to main content

مستقبل سلامة الغذاء في ظل التحول الرقمي

أ.د. ناصر عبداللطيف الشبيب
بقلم: أ.د. ناصر عبداللطيف الشبيب
تم النشر في: منذ 28 دقيقة

 

الواقع الذي يشهده العالم اليوم من موجةٍ واسعة من التحول الرقمي التي أصبحت قوة دافعة لإعادة تشكيل القطاعات الحيوية، ومن أبرزها قطاع سلامة الغذاء. هذا القطاع، الذي كان يعتمد تقليديًا على أساليب الفحص اليدوي، وتحليل العينات المخبرية، والاستجابة بعد وقوع المشاكل، يدخل الآن مرحلة جديدة تعمل فيها التقنيات الرقمية على تحويله من منهجية رد الفعل إلى منظومةٍ استباقية قادرة على التنبؤ بالمخاطر ومنعها قبل حدوثها. ويأتي هذا التحول نتيجةً للتعقيدات المتنامية في سلاسل الإمداد الغذائي على مستوى العالم، وتزايد حركة السلع والتبادل التجاري عبر الحدود، وارتفاع مستوى وعي المستهلكين الذين أصبحوا يطالبون بمعلوماتٍ دقيقة وشفافة حول مصدر الغذاء وجودته وسلامته.

تطور بيئة سلامة الغذاء بشكلٍ متزامن مع انتشار التقنيات الحديثة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وتقنية Blockchain ومعالجة البيانات الضخمة. ومع تزايد استخدام أجهزة الاستشعار الذكية في مراحل النقل والتخزين والمعالجة، أصبح من الممكن مراقبة الظروف البيئية بطريقةٍ مستمرة، الأمر الذي يقلل من الاعتماد على أخذ العينات المحدودة. فهذه الأجهزة قادرة على قياس درجة الحرارة، ومستويات الرطوبة، ومتغيرات الجودة الحساسة في الزمن الحقيقي، وإرسال تنبيهاتٍ فورية عند حدوث أي تغيير قد يهدد سلامة المنتجات. وبذلك يتعزز مستوى القدرة على التحكم المسبق، ويحدّ بشكلٍ مبكر من احتمالية تلف المنتجات أو تعرضها للتلوث الميكروبي أو الكيميائي.

أما الذكاء الاصطناعي، فقد أصبح إحدى الأدوات الجوهرية في تطوير نماذج متقدمة للتنبؤ بالمخاطر. فمن خلال تحليل البيانات التاريخية ومصادر المعلومات المتنوعة القادمة من سجلات الإنتاج وشكاوى المستهلكين والبيانات المناخية وظروف النقل والتخزين، فإنه يمكن لخوارزميات التعلم الآلي تحديد الأنماط غير الطبيعية التي تسبق حدوث المشاكل المتعلقة بالمنتجات. ويسمح ذلك بإنتاج أنظمة إنذارٍ مبكر قادرة على إرشاد المسؤولين قبل ظهور الخطر بشكلٍ ملموس. كما تُستخدم تقنيات الرؤية الحاسوبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي في اكتشاف العيوب والشوائب على خطوط الإنتاج بدقةٍ تفوق قدرات البشر، مما يقلل من الخطأ البشري ويضمن مستوى أعلى من السلامة الغذائية.

ويُعد استخدام تقنية Blockchain نقلة نوعية في تعزيز الشفافية والمصداقية داخل سلاسل الإمداد الغذائية، حيث تعتمد هذه التقنية على سجل موزع وغير قابل للتلاعب، تسجل فيه كل مرحلة من مراحل مسار المنتج؛ بدءًا من المزرعة أو المصنع، مرورًا بوسائل النقل والتخزين، وصولًا إلى المستهلك النهائي. وبفضل هذا السجل الموثوق، يمكن تتبع أي منتجٍ غذائي خلال ثوانٍ، مما يسهم في تسريع عملية الاستجابة في حال حدوث تلوث أو استدعاء للمنتجات. كما تساهم هذه التقنية في الحد من التلاعب والغش الغذائي، وتعزز ثقة المستهلكين ومصداقية الشركات المصنعة.

وبالتوازي مع هذه التقنيات، تلعب البيانات الضخمة دورًا مهمًا في فهم البيئة المعقدة لسلامة الغذاء. فالكم الهائل من البيانات الناتج عن أنشطة الإعداد والتصنيع والتخزين والتوزيع والمراقبة يمكن تحليله لاستخراج الأنماط المتكررة، وتحديد نقاط الضعف داخل النظام الغذائي، وتوجيه القرارات التنظيمية بناءً على الأدلة. وبذلك يتعزز الانتقال من السيطرة التقليدية إلى اتخاذ قراراتٍ إستراتيجية مستندة إلى تحليل متطور للبيانات.

ومع كل هذه الإيجابيات، يظل التحول الرقمي في مجال سلامة الغذاء محاطًا بعددٍ من التحديات التي تتطلب جهودًا متكاملة لتجاوزها. فالتكلفة المالية العالية لاقتناء التقنيات الحديثة تمثل عقبة أمام العديد من المنشآت الصغيرة والمتوسطة التي لا تمتلك قدراتٍ مالية تمكنها من الاستثمار في أجهزة استشعارٍ متقدمة أو أنظمة ذكاءٍ اصطناعي. كما أن قضية الأمن السيبراني باتت مصدر قلقٍ متصاعد، حيث تعتمد هذه التقنيات على تبادل البيانات الحساسة عبر الشبكات، مما يزيد من مخاطر التعرض للهجمات الإلكترونية وسرقة البيانات. وتتطلب حماية هذه البيانات ببنية تحتية رقمية قوية تضمن أمن التداول وسرية المعلومات، في الوقت الذي تشهد فيه العديد من الدول تفاوتًا في قدراتها التقنية.

إضافةً إلى ذلك، فإن نجاح التحول الرقمي يعتمد على توفر كوادر بشرية مؤهلة تمتلك المعرفة الرقمية الكافية لإدارة الأنظمة الذكية وتحليل البيانات المعقدة. ولا يزال نقص الكفاءات المتخصصة يمثل تحديًا كبيرًا في العديد من الدول. كما أن الإطار التنظيمي يحتاج إلى التطوير ليواكب سرعة الابتكار، إذ إن العديد من القوانين الحالية قد لا تستوعب آليات العمل الجديدة للتقنيات الرقمية، مما يستدعي إعادة هندسة الأنظمة التشريعية لضمان مرونة تسمح بالتكيف مع هذه التقنيات الحديثة.

ورغم هذه التحديات، يلوح في الأفق مستقبلٌ واعد لسلامة الغذاء يعتمد على بناء نظامٍ رقابي يعتمد على التنبؤ بدلًا من الاستجابة وردة الفعل. فمن خلال الدمج الذكي بين التقنيات الرقمية، يمكن بناء منظومةٍ غذائية قادرة على كشف المخاطر قبل حدوثها، وعلى تحسين توزيع الموارد، وتقليل الهدر الغذائي، وتعزيز الاستدامة، وزيادة ثقة المستهلكين. وفي هذا السياق، يصبح التعاون بين الحكومات والهيئات الرقابية والمؤسسات العلمية وشركات القطاع الخاص عنصرًا أساسيًا في تطوير بيئةٍ متكاملة تشجع الابتكار وتضع معايير عالمية موحدة.

وعلى ضوء ما تقدم، فإن التحول الرقمي لا يمثل مجرد مرحلةٍ عابرة في مسار تطوير سلامة الغذاء، بل هو تحول هيكلي يعيد تشكيل المفاهيم والمنهجيات التي يقوم عليها هذا القطاع. ومع استمرار التطورات الرقمية، سيغدو النظام الغذائي العالمي أكثر قدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة، وأكثر كفاءة في إدارة المخاطر، وأكثر شفافية في نقل المعلومات إلى المستهلك. ولتحقيق هذا المستقبل، ينبغي الاستثمار في البنية التحتية، ودعم البحث العلمي، وتطوير التشريعات، وبناء القدرات البشرية، حتى يصبح قطاع سلامة الغذاء قادرًا على مواكبة الثورة الرقمية وتوظيفها بأعلى درجات الفاعلية لخدمة الصحة العامة وضمان الغذاء الآمن لجميع أفراد المجتمع.

 

أ.د.  ناصر بن عبد اللطيف الشبيب

أستاذ سلامة الغذاء

قسم علوم الأغذية والتغذية / كلية علوم الأغذية والزراعة