Skip to main content

ترجمة التفاؤل والكرم في العمارة

د. جميل عابد
بقلم: د. جميل عابد
تم النشر في: منذ 2 دقيقة

 

في عالمٍ تتسارع فيه التحولات البيئية والاجتماعية والتقنية، ومع قرب تنفيذ أهداف 2030 والنظر إلى ما بعد ذلك. تبرز فرصة أخلاقيات في العمارة مثل التفاؤل كاتجاهٍ فكري وإنساني يسعى إلى تجاوز مجرد بناء المساحات، نحو بناء الأمل ذاته. فالعمارة ليست فقط مأوى للجسد، بل هي أيضًا موطنٌ للروح، والإبداع، والأمان، والمستقبل. إن التفاؤل في العمارة لا يعني إنكار الواقع أو تجاهل التحديات، بل هو إيمانٌ بقدرة التصميم على التغيير الإيجابي، وعلى تحويل القيود إلى فرصٍ والمشكلات إلى حلولٍ مبتكرة. من هذا المنطلق نستطيع أن نُعيد رسالة الإيجابية إلى مركز العملية التصميمية، فهي لا تنطلق من الشكل أو التقنية فحسب، بل من الإحساس بالمسؤولية تجاه الحياة وجودتها. فالمعماري المتفائل لا يرى في المناخ عائقًا، بل فرصة لإبداع حلولٍ بيئية ملهمة. ولا يرى في محدودية الموارد ضعفًا، بل دافعًا للبحث عن بدائل مستدامة. وهذا ما يجعل التفاؤل في العمارة ممارسة فكرية وممارسة تقوم على الثقة بقدرة التصميم على التحسين. لقد شهدت العقود الأخيرة تحولًا واضحًا في فلسفة العمارة نحو العمارة الإنسانية بشكلٍ عام، والتي تعطي الأولوية للتجربة الحسية والعاطفية للمستخدم، وتبحث في العمق عن معاني الانتماء، والراحة، والتواصل الاجتماعي. وبهذا نجد التفاؤل ينتمي إلى هذا الاتجاه، إذ يسعى إلى أن يكون المبني والفضاء يُلهم الناس ويمنحهم الطاقة الإيجابية، سواءً من خلال الضوء الطبيعي الذي يتسلل بلطفٍ عبر الواجهات، أو من خلال المساحات الخضراء وغيرها مما يبعث الحياة في قلب المدن.

في المدن التي تعاني من المناخ أو الازدحام أو التلوث، يمكن للعمارة أن تكون أداة لإعادة التوازن النفسي والاجتماعي. فهي تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان وبيئته، من خلال مبادئ التصميم الحيوي، والاستفادة من الطبيعة كمصدر إلهامٍ للتلطيف البيئي الوظيفي والجمالي. فالمبنى المتفائل لا يفرض نفسه على البيئة، بل يتحاور معها بلغة الاحترام والتكامل. ويظهر التفاؤل أيضًا في عمارة المستقبل الذكية، التي توظف التقنيات الحديثة لخدمة الإنسان لا لاستبعاده. فالتكنولوجيا في العمارة التي تتبنى التفاؤل ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لخلق مساحاتٍ أكثر راحة وصحة واستدامة. إنها عمارة تستبق الأزمات، وتحتضن التغيير بروحٍ منفتحة، وتؤمن بأن المدن يمكن أن تكون أكثر خضرة وإنسانية وعدلًا. بالإضافة إلى أن العمارة عندما تتبني التفاؤل فهو ليس مجرد أسلوبٍ تصميمي، بل موقف فكري وأخلاقي يعبّر عن إيمان المعماري بأن كل مشروع، مهما كان صغيرًا، يمكن أن يُحدث فرقًا في حياة الناس. إنها دعوة إلى تصميمٍ يُنير لا يُثقل، يُبهج لا يُرهق، ويزرع الأمل بدل الخوف. فالمدينة المتفائلة ليست حلمًا بعيد المنال، بل نتيجة حتمية حين يلتقي الإبداع بالمسؤولية، والتصميم بالإنسانية.

ونجد أيضًا الكرم كقيمةٍ إنسانية أصيلة في الثقافة العربية والإسلامية، تتجاوز مفهوم العطاء المادي إلى كونها أسلوب حياة يعبر عن التقبل، والضيافة، والاحترام المتبادل. وعندما تنتقل هذه القيمة إلى العمارة، تتحول إلى فلسفةٍ تصميمية تُترجم مشاعر السخاء الإنساني إلى فراغاتٍ، وأبواب، وواجهات، ومساحاتٍ تتحدث بلغة الترحيب والاحترام. فالكرم في العمارة ليس زخرفة أو شكلًا خارجيًا، بل هو روح تُبنى بها البيوت والمدن وتجربة حسية. والكرم في العمارة أيضًا يعني سخاء التجربة الإنسانية داخل الفضاء. فالمعماري الكريم هو من يمنح المستخدم حرية الحركة، والتفاعل، والاكتشاف وفرص الراحة دون طلبها. الكرم هنا يتحول من استقبال الضيف إلى استقبال الحياة نفسها في تجربة المستخدم، أو طريقة دخول الضوء الطبيعي، أو تدفق حركة الهواء، أو في وفرة المساحات المشتركة التي تجمع الناس وتبني بينهم جسور الألفة. ومن زاوية أخرى، يتقاطع الكرم المعماري مع الاستدامة، فالمبنى الكريم هو الذي لا يستهلك أكثر مما يحتاج، ويشارك بيئته بالاحترام والتوازن. استخدام المواد المحلية، وتوظيف التقنيات الطبيعية في التهوية والتظليل، كلها صور من الكرم نحو البيئة والإنسان معًا. فالكرم ليس فقط استقبال الضيف، بل أيضًا إكرام الضيف.

إننا اليوم بحاجةٍ إلى تأكيد عمارةٍ تدعم التفاؤل والكرم، كما تكون عمارة تُعبّر عن الاحتواء وعن العطاء. فحين يكون المبنى سخيًا في فكرته ووظيفته وتجربة الزائر، يصبح مكانًا يرتقي بالإنسان وبشعورة بالانتماء وأيضًا يبني تصاميم تُلهم الحياة بدل أن تستهلكها، وتذكّرنا أن التصميم ليس فقط أداة للعمران، بل لبناء الأمل وعكس مشاعر المجتمع. وهكذا، فإن التفاؤل والكرم في العمارة هو موقف إنساني يُترجم عبر التصميم، ويمنح المباني والمدن وجهها الأجمل: وجه الترحيب، والسخاء، والتواصل والمستقبل.

د. جميل عابد

أستاذ مشارك – قسم العمارة وعلوم البناء

كلية العمارة والتخطيط

jbinabid@ksu.edu.sa